بعد أن اكتمل قمر شهر رمضان المبارك 2012 بدراً فى سماء مصر، بأيام قليلة، كانت المحروسة تعلن «رحلة الصيام للجميع»، حيث يجمع الصوم فعلياً، وليسا مجازاً، المسلم مع المسيحى، طالبين من الله الرحمة والمغفرة والبركة.
فى الثامنة من مساء الخميس 19 يوليو الماضى، فرح المسلمون بإعلان الغد (الجمعة)، أول أيام شهر رمضان المبارك للعام 2012 ميلادية- 1433 من هجرة الرسول (ص).. ولم يكد الشهر ينتصف حتى بدأ أقباط مصر فى السابع من أغسطس، الموافق 1 مسرى بالتقويم القبطى (17 رمضان بالتقويم الهجرى)، فى صوم من أكثر العبادات المسيحية شعبية بين أقباط مصر، إنه صيام السيدة العذراء والدة السيد المسيح.
يصوم الأقباط صيام السيدة العذراء، مريم البتول، حتى 15 من شهر مسرى، وهو الشهر الثانى عشر من الأشهر المصرية القديمة وهي: توت- بابة- هاتور كياهك- طوبة- أمشير- برمهات-برمودة- بشنس- بؤونة- أبيب- مسرى- وأخيراً نسيئ، الذى يمتد من 6 سبتمبر إلى 10 سبتمبر فقط، أما شهرى مسرى، واسمه باللغة الفرعونية (مس أو رى)، فيعنى ميلاد الشمس، وفيه صعدت روح السيدة مريم إلى السماء. وحسب التقويم القبطى، فإن هذا الشهر هو آخر شهور موسم الحصاد فى مصر الفرعونية ثم البطلمية والرومانية، ولايزال هذا التقويم محفوراً فى وجدان ملايين المصريين فى الريف، لتحديد مواسم الزراعة، ومعرفة أحوال الطقس، وأفضل الأوقات للحصاد.
بهذا التقويم، يصوم المسلمون والأقباط «شهراً مصرياً» بامتياز، ويختتمون الصوم معاً، فيحتفل المسلمون بعيد الفطر المبارك، وبعده بأيام يحتفل الأقباط بعيد السيدة العذراء، مريم البتول، فى 16 مسرى، الموافق 22 أغسطس بالتقويم الميلادى، و4 شوال بالتقويم الهجرى، طبقاً للحسابات الفلكية.
فى بدء صوم العذراء، تبدأ الكنيسة احتفالاتها بهذا الطقس المسيحى الكبير، حيث تقدم الكنائس عظات وقداسات بشكل شبه يومي، أما ليلة العيد، فيحييها الأقباط فى كنيسة السيدة العذراء فى كل الأديرة المسماه على اسم السيدة العذراء وأبرزها ديرها العامر بمدينة درنكة بمحافظة أسيوط حيث يتراوح عدد الزوار سنوياً بمليون زائر بحسب إحصائيات المحافظة، وكذلك دير السيدة العذراء بمسطرد ودير العذراء ببياض العرب بمحافظة بنى سويف وهى الأماكن التى زارتها العائلة المقدسة فى مصر أثناء هروبها من فلسطين.
لا يخلو «صوم أم النور» كما يلقب المصريون السيدة البتول، من احتفالات وأعياد أخرى، فهناك عيد القديس مار جرجس، المعروف باسم «البطل الشهيد»، وهو فلسطينى الأصل من منطقة اللد، استشهد والده على يد الحاكم، الذى أمر بإعدامه حين علم أنه اعتنق المسيحية، بعد تعذيب دام 7 سنوات. وتحتفل الكنيسة بذكراه فى النصف الثانى من أغسطس كل عام، وهو العيد الأبرز الذى يتخلل صيام العذراء، حيث تقام الاحتفالات فى دير ميت دمسيس، ودير الزريقات.
أيضاً هناك عيد القديس أبا مقار الكبير، وهو من مواليد قرية شبشير بالمنوفية، والقديسة بائيسة المولودة فى المنوفية أيضاً فى القرن الرابع الميلادى، وتحتفل الكنيسة بها فى 2 مسرى، بالتقويم القبطى، وكذلك القديسة التركية يوليطة بعدها بأربعة أيام فى 6 مسرى، ثم الاحتفال بـ«بشارة الملاك جبرائيل» للقديس (يواقيم) بميلاد ابنته السيدة مريم، وبعده عيد التجلى فى 13 مسرى، ثم القديسة مارينا فى 15 مسرى، ليكون آخر تذكرة أو احتفال كنسى خلال فترة صوم السيدة العذراء مريم البتول.
عرفت مصر السيدة العذراء، منذ أن أتت هاربة مع يوسف النجار، والمسيح طفلاً، خوفاً عليه من الرومان واليهود، حيث طافت «العائلة المقدسة» أقاليم مصر المختلفة بحثاً عن أمان افتقدته فى فلسطين، حيث جاءت والدة المسيح، من بلادها لتدخل سيناء، وتزور العريش، ثم تكمل المسيرة إلى منطقة مصر القديمة (وهى المنطقة نفسها التى تحتضن أول عاصمة إسلامية لمصر، وأول مسجد فى البلاد، مسجد عمرو بن العاص)، وبعد القاهرة، اتجهت «أم النور»، مع طفلها المسيح عيسى بن مريم إلى الصعيد، لتعود بعدها فى رحلة عكسية، إلى وادى النطرون، وتجتاز الدلتا، ثم سيناء حتى تعود إلى وطنها فلسطين.
وصوم « العذراء» من أصوام الدرجتين الثالثة أو الرابعة، فيسمح فيه بأكل السمك.
وعن الأسباب التى ذكرت لهذا الصوم قيل إنه دعى باسم «صيام العذراء، ليس لأنها صامته أو فرضته، وإنما لأنه يوافق يوم صعود جسدها للسماوات، وقيل إن الكنيسة فرضته إكراماً للسيدة العذراء، وقيل إن الرسل هم الذين رتبوه إكراماً لنياحة العذراء.
وقيل إن القديس توما الرسول بينما كان يخدم فى الهند، رأى الملائكة تحمل جسد أم النور إلى السماء.. فلما عاد إلى فلسطين، وأخبر التلاميذ بما رآه، اشتهوا أن يروا ما رأى توما، فصاموا هذا الصوم فأظهر لهم الله فى نهايته جسد البتول، ولذلك دعى بـ«عيد صعود جسد أم النور»، وقيل إن العذراء نفسها هى التى صامته، وأخذه عنها المسيحيون الأوائل ووصل إلينا بالتقليد، وقيل إنه كان سائدا قديماً، فأقره آباء المجمع المسكونى الثالث بالقسطنطينية سنة 381م، وطلبوا من الشعب ضرورة صومه.