عاصرت وعايشت وتحدثت مع هذه السيدة عندما كنت أتردد شابا على لجنة الدفاع عن الثقافة القومية برئاسة الأديبة والناشطة والمفكرة لطيفة الزيات وكان من أعضاء هذه اللجنة مجموعة من العمالقة منهم الدكتور عبدالعظيم أنيس وفتحية العسال ورضوى عاشور والدكتور سيد البحراوى والخبير في الشأن الإفريقى منذ عهد عبدالناصر حلمى شعراوى.
كما كانت تتردد على أتيليه القاهرة المقابل لحزب التجمع الذي كانت تقع فيه لجنة الدفاع عن الثقافة القومية فهى كانت من أعضائه الأوائل حتى إن أتيليه القاهرة خصص قاعة عرض باسمها، كانت سيدة رقيقة واثقة من قناعاتها وذاتها ورسالتها مؤمنة بما تفعله، بنت ذوات في ملبسها وصوتها الهادئ حتى في المناقشات الساخنة فهى تنتمى لعائلة أرستقراطية ناطقة بالفرنسية- وكفنانة تشكيلية- تنتمى إلى رواد الحركة الفنية التشكيلية في مصر والعالم العربى، وجدها الأكبر كان وزيرا للجهادية والبحرية في عهد الخديو إسماعيل، أما عن مرد لقب أفلاطون فقد قيل إن محمد على الكبير سمى جدها أفلاطون نظرًا لنقاشاته الفلسفية، ووالدها درس في سويسرا وأصبح عميد كلية العلوم بجامعة القاهرة، أما والدتها فكانت أول مصممة أزياء مصرية.
دفعت ثمن قناعاتها السياسية ٤ سنوات في «المعتقل»
حين نذكر اسم إنجى أفلاطون فإننا نتعرض لسيرة ومسيرة رائدة على الصعيد الفنى ومناضلة سياسية ارتبط اسمها بالعدالة الاجتماعية التي آمنت بها وقد تتلمذت فنيا وفكريا أيضا على يد الفنان كامل التلمسانى والتحقت بجماعة الفن والحرية. وكانت وهى في العشرين من عمرها قد التحقت بإحدى المنظمات الشيوعية، ودفعت ثمن قناعاتها السياسية أربع سنوات بالمعتقل، وفى مقتبل شبابها كانت تشعر بالخجل من عدم إتقانها لغة بلادها (العربية) وتتلمذت في العربية على يد الشاعر فؤاد حداد الذي كان يتقاسم معها الفكر اليسارى.
وحين تزوجت من مثقف يسارى ينتمى للطبقة الوسطى الصغيرة رحل بعد سنوات قليلة من زواجهما، واعترفت بأن هذا الزواج خلصها من «عقدة ذنب» صاحبتها نتيجة لانتمائها لطبقة لم تخترها، كما كان لها دور رائد في مجال الحركة النسائية، حيث أسست رابطة الفتيات الجامعيات وفتيات المعاهد التي كانت تدعو للمساواة وتطالب بحقوق المرأة في المجتمع.
وكان جاليرى سفرخان، بالزمالك، قد أقام معرضًا لأعمال للفنانة الراحلة إنجى أفلاطون، في يناير من هذا العام وضم مجموعة متنوعة ورائعة تراوحت بين الرسومات الأولية والرسومات التفصيلية، ورسومات الحبر الملونة، وعدد قليل من اللوحات المائية النادرة والساحرة.
وإنجى أفلاطون مولودة في 16 إبريل م ودرست في مدرسة القلب المقدس في القاهرة ثم التحقت بالثانوية الفرنسية «الليسيه»، كانت دائما تشعر بالاغتراب في بلد لا تعرف عنه الكثير، وأنها تعيش حياة بعيدة عن جذورها المصرية، فضاقت بمدرستها، وبدأت تهتم بالأدب والتاريخ السياسى حيث تعرفت أيضًا على النظرية الماركسية، وبدأت في تعلم اللغة العربية في سن السابعة عشرة وفى بداية الأربعينيات، كانت واحدة من أولى النساء اللواتى درسن الفن. وأظهرت خلال فترة تعليمها اهتمامًا متزايدًا في الفن وقد بدأت طريق الإبداع الفنى تلقائياً قبل أن تدرس الرسم دراسة أكاديمية، بل واستقدم لها والدها معلماً حين لاحظ موهبتها المبكرة وشغفها بالرسم لكنها رفضت الأسلوب الإملائى في الفن، وألحقها والدها باستوديو (جاتروس أمبير) في شارع قصر النيل والذى مثل بالنسبة لها أكاديمية خاصة كان هذا في عام 1941، لكنها تركته بعد شهر واحد بحثاً عن الحرية في التعبير.
وبعد فترة التقت بأحد الفنانين الذين أثروا في الحركة الفنية آنذاك وهو الرسام والمخرج كامل التلمسانى وباشرت منذ عام 1940 تدرّبها على يديه وقد عرف بأعماله الفنية الاحتجاجية والساخرة من الأعراف الاجتماعية كما شرح لها الفن ووجهها نحو تاريخ الفنون وفلسفة الجمال وقدم لها فنون التراث واتجاهات الفن الحديث من خلال المراجع والصور فانفتحت أمامها نافذة أطلت منها على عالم الفنون الحافل بالجمال كان ذلك في الفترة من 1942 حتى 1945.
وكانت إنجى تعرفت على التلمسانى من خلال الفنان محمود سعيد الذي عرف قدرة إنجى الفنية في إحدى زياراته لأسرتها، وقد اتخذت إنجى من (السريالية) منهجاً للتعبير عن نفسها فنياً فصورت كل ما خطر ببالها من أحلام وكوابيس بطريقة روائية وظهر ذلك في لوحات (الوحش الطائر) 1941، و(الحديقة السوداء) 1942 و(انتقام شجرة) 1943 وهى من أشهر لوحاتها، كما عرفها التلمسانى على مجموعة الفنانين السرياليين «الفن والحرية» التي أسسها في 1939 جورج حنين وضمت بين أعضائها محمود سعيد وفؤاد كامل ورمسيس يونان ويساندهم مجموعة من النقاد منهم البير قصيرى ولطف الله سليمان، واستطاع التلمسانى أن يطلق طاقتها الفنية المتدفقة ويشق أمامها طريقا مثيراً.
كما عكفت على قراءة الكتب في التاريخ والاجتماع والفلسفة والاقتصاد والأدب والموسيقى ثم تتلمذت بعد ذلك لمدة سنة على يد الفنانة مارجو فيلون، قبل أن تلتحق بمرسم الفنان حامد عبدالله، ومنذ تلك اللحظة أثرت السريالية في أعمالها الفنية بشكل ظاهر ومنها «الفتاة والوحش» عام 1941.
وكانت من مؤسسى «رابطة فتيات الجامعة والمعاهد» ونشرت خلال 1948 و1949 كتاب «80 مليون امرأة معنا» وكتاب «نحن النساء المصريات»، وهما تحليل لقمع النساء والأمة على السواء، ومع هذا النشاط الفنى والاجتماعى سافرت إلى العديد من البلدان الأوروبية وزارت المتاحف وشاهدت روائع الفن القديم والحديث فأدركت أنها لن تستطيع أن تضيف شيئاً من خلال المنهج السريالى فتوقفت عن الرسم لمدة عامين منذ 1946 حتى 1948 حيث آثرت أن تدخل بوابة الفن من بدايتها حتى تتمكن من تجسيد مشاعرها وخيالاتها وأفكارها مدركة أن الفن رسالة حياتية لا تكتمل إلا بالعمل اليومى وتحصيل المعرفة على أيدى الأساتذة الكبار، وأمضت ست سنوات في التردد على مراسم الفنانين ومراكز تعلم من 1948 وحتى 1954.
وبدأت تحمل أدوات الرسم وتتجول بها في القرى والنجوع في طول مصر وعرضها وكانت معظم جولاتها منفردة رغم صعوبة ذلك آنذاك، لكنها لم تعبأ بالعقبات التي قابلتها وكانت تنام في الفنادق أو الأديرة تلبية لرغبتها في التعبير عن رؤيتها للريف والفلاحين وحياتهم وطبيعة بيئتهم والحقول والغنم والماشية والسواقى ونقلت صورة أمينة شكلا ومضمونا وروحا وتعبيرا في أعمال تضج بالحركة وأصوات الحياة وراحت ترسم غروب الشمس وشراع المراكب الصغيرة وهى تتحرك في النيل، فتحول إلى رمز للحرية وفق نهج تعبيرى يتجاوز النسب الطبيعة، مع تحوير العناصر، واستثمار الرمز.
وكان الإنسان في هذه الأعمال هو العنصر الرئيسى، ومنذ ذلك الحين بدأت الطبيعة تؤكد وجودها في إبداعات (إنجى أفلاطون)، دخلت إنجى بيوت الفلاحين، وجالستهم ورأت على الطبيعة كيف تعيش المرأة في الريف، كامرأة عاملة، تعمل في كل مكان، الحقل والسوق والمنزل، إذن المرأة تتحدى الفقر وترعى الأسرة، أما نساء الحضر فقد عبرت عنهن بصورة واقعية وكانت قد تعرفت عام 1950 على المثقفة والمناضلة النسائية سيزا نبراوى، والتحقت بـ«لجنة الشابات بالاتحاد النسائى المصرى» في 1951 وساهمت مع سيزا نبراوى وعدد من المناضلات في تنظيم «اللجنة النسائية للمقاومة الشعبية ولم تتوقف عن الرسم، وتوالت معارضها، حتى بلغ عددها 26 معرضاً، وسافرت في منتصف الخمسينيات إلى النوبة والواحات، واستلهمت كثيرًا من مشاهد الحياة اليومية في الريف وأصبحت رسومها في أواخر الخمسينيات ذات منحى سياسى.
وكان معرضها الخاص الأول في عام 1951 وغلب عليه الطابع الواقعى الاجتماعى سواء في اللوحات التي عبرت فيها عن هيمنة الرجل على مقدرات المرأة أو اللوحات التي صورت الكفاح المسلح ضد قوات الاحتلال البريطانى مثل (لن ننسى) التي عبرت عن شهداء الفدائيين في معارك قناة السويس.
ظلت فكرة البرجوازية تراود إنجى لفترة حيث التناقض الذي وقعت فيه بين انتمائها العائلى الارستقراطى وانتمائها السياسى للفقراء من أبناء وطنها، لكنها كما تقول في مذكراتها «الحل لم يكن كما في ترك دولاب ملابسى على أحدث الموضات الفرنسية وارتداء أزياء متواضعة، ولا في التخلّى عن سيارتى الستروين لصالح واحدة من طراز الفيات 128، وهذا لحل فكرة التناقض بين الانتماء الارستقراطى الطبقى وبين الاندماج في أوساط العمل والنضال مع الرفقاء من الفقراء ولكن بطرح مطالب وقضايا المرأة العاملة والفقيرة والمعيلة كأولوية وليس فقط بالتركيز على هموم وحقوق المرأة بشكل عام، فتصبح النتيجة هي الدفاع عن حقوق تخص فقط المرأة البرجوازية وميسورة الحال كالحريات وحق الاقتراع».
وفى8 يناير 1958 أصبحت عضوا قياديا في الحزب الشيوعى المصرى، وانتهى الأمر باعتقالها في مارس 1959 مع 25 سيدة، ودام اعتقالها 4 سنوات ونصف وكانت تمارس الرسم طوال فترة سجنها، وكانت أعمالها ذات طابع تعبيرى مثلما في لوحاتها «شجرة خلف الحائط» و«ليلة خلف قضبان السجن» من أكثر أعمالها سحرا «الصور النسائية في السجن» التي أظهرت قوتها وعذابها حيث رسمت كيف تجلس النساء في راحة في عنبر السجينات مثلما في لوحة «فتاة خلف القضبان».
وللفنانة إنجى أفلاطون ثلاثة كتب الأول بعنوان (80 مليون امرأة معنا) 1947 والثانى بعنوان (نحن النساء المصريات) 1949 والثالث بعنوان (السلام والجلاء) 1951، وقد توفيت في 17 إبريل 1989 بعد مسيرة حافلة بالإبداع والنضال.