نزل ما قاله الرئيس جمال عبدالناصر على رأس عدد من القادة الفلسطينيين الذين اجتمع بهم فى عام ١٩٦٤ نزول الصاعقة، خاصة أن ما ذكره جاء فى وقت اشتد فيه التفاؤل بعد عودة اجتماعات الدول العربية على مستوى القمة بمناسبة مواجهة المشروعات الإسرائيلية لتحويل مجرى نهر الأردن. كان ما قاله الزعيم الكبير فى ذلك الوقت وبصراحة لم يتعودها أحد هو أنه لا توجد لديه، أو لدى مصر، خطة لتحرير فلسطين، كان لديه بالتأكيد إيمان بضرورة التحرير وحق اللاجئين الفلسطينيين فى العودة إلى ديارهم، ولكن الإيمان أمر، ووجود خطة واستراتيجية وتعبئة الموارد من أجلها أمر آخر.
كانت مصر قد مرت بتجارب صعبة مع الدول العربية خلال السنوات السابقة، كانت فيها الوحدة مع سوريا والاتحاد مع اليمن، ووقت الحديث كانت مصر تمر بتجربة أول خطة خمسية للتنمية، وتقوم ببناء السد العالى، وتنتوى التقدم حتى حلم عبدالحليم حافظ أن تكون هناك «تماثيل رخام عالترعة وأوبرا» فى كل قرية عربية. لم يكن حديث الرئيس يعنى التخلى عن القضية الفلسطينية، ولكنه كان يريد صدقاً كاملاً مع الإخوة ورفاق الطريق حتى لا تمتد الأحلام، ولا تتصاعد الشعارات فوق السقوف التى وصلت إليها بالفعل.
وفى الحقيقة أنه لم يحدث أبداً أن كانت هناك خطة لتحرير فلسطين، كانت هناك نوايا كثيرة بالطبع، طيبة ووطنية وقومية، ولكن لم تكن هناك لا خطة ولا استراتيجية، ولا تعبئة للموارد التى تحققها. ومن المدهش للغاية أن القادة العرب عندما وضعوا خطة لتحرير فلسطين بمواجهة الدولة الإسرائيلية الوليدة و«المزعومة» بلغة تلك الأيام عام ١٩٤٨، وطبقاً لما جاء فى كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل «جيوش وعروش»، فإنها قامت على أساس تطبيق قرار التقسيم لعام ١٩٤٧ الذى رفضته الدول العربية من الأصل علناً، ولكنها كانت تحاول تطبيقه فى الواقع ودون خطة أو إعلان. وكانت النتيجة هى أن إسرائيل التى قامت على أساس قرار التقسيم توسعت إلى ما وراء الخطوط التى قررتها لها الأمم المتحدة، ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى توسعت فيها إسرائيل، حيث ابتلعت من خطوط الهدنة، ومن المناطق المحايدة، بعضاً من الأرض حتى كان التوسع الأكبر بابتلاع فلسطين كلها بعد حرب يونيو ١٩٦٧. وبعد هذه الحرب لم تكن هناك خطة لتحرير فلسطين، وإنما خطط عديدة لتحرير الأراضى «العربية» المحتلة، وهى التى تجسدت فى حرب الاستنزاف (١٩٦٩/ ١٩٧٠) ثم بعد ذلك حرب أكتوبر التى ترجمت نتائجها بتحرير سيناء ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.
الفلسطينيون لم تكن لديهم لا خطة ولا استراتيجية لتحرير فلسطين، كان لديهم بالتأكيد خلال الستينيات أفكار مثل قيام دولة فلسطينية ديمقراطية علمانية تضم العرب المسلمين والمسيحيين والدروز واليهود معًا، وفى عام ١٩٧٤ أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية، التى باتت الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفسطينى، عن استعدادها لإقامة دولة فلسطينية على الأراضى التى يتم تحريرها من فلسطين. كان ذلك إعلاناً عن الاستعداد لإقامة دولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين، وبحكم المنطق فإن ذلك لم يكن ممكناً إلا بموافقة دولة إسرائيل أو بالتفاهم معها. جرى النضال الفلسطينى الباسل كما نعرفه بدءاً بمحاولات الفدائيين خلال الخمسينيات من القرن الماضى، وحرب العصابات خلال الستينيات، والإرهاب الثورى فى السبعينيات، وأخيراً الانتفاضة فى الثمانينيات من ذات القرن، ولكن كل ذلك لم يكن لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وإنما فى الحصول على أرض أو مجال فلسطينى على أرض فلسطين. فى الجوهر كان الفلسطينيون يناضلون من أجل تقسيم أرض فلسطين بينهم وبين الإسرائيليين، وهو ما قطعوا خطوات فيه عندما وقعت اتفاقيات أوسلو ١٩٩٣، وقامت بعدها السلطة الوطنية الفلسطينية على أرض فلسطينية لأول مرة فى التاريخ. مثل ذلك لم يكن موضع اتفاق بين كل الفصائل الفلسطينية، فقد كان هناك دوماً هؤلاء الذين لديهم التصميم على تحرير فلسطين بين النهر والبحر، حتى ولو كان هذا التصميم على «المبدأ» وليس معززاً بخطة أو استراتيجية لتنفيذها حتى ذاب الفارق فى الواقع بين ما يقال على سبيل الشعار، وما هو حلم وما هو خيال، وما هو «فش غل» وكفى.
مناسبة الحديث السابق هو الحالة النفسية والعصبية لدى جماعات منا، والتى تولدت نتيجة الحركة السياسية الحالية من أجل استئناف المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية. وربما يكون رد الفعل السلبى مفهوماً من جماعة الإخوان، التى لا يوجد لديها مانع من الارتماء فى الأحضان التركية وعلاقاتها المعروفة مع إسرائيل، ولكنها تجد غضاضة وغضباً عندما تتحرك مصر ودول عربية أخرى من أجل التوصل إلى اتفاق يقيم الدولة الفلسطينية المستقلة. هؤلاء دائماً لا توجد لديهم خطة أو استراتيجية لتحرير فلسطين، ولديهم قدرات تحليلية فائقة فى الإصرار على أن طريق المفاوضات والدبلوماسية والسياسة هو طريق مسدود، لأن الطريق لا يكون مفتوحاً إلا إذا قام «الكيان الصهيونى» بلم أغراضه والرحيل مع تقديم اعتذار تاريخى عن الألم الذى ألم بنا، أو على أقل تقدير يقبل بعودة جميع اللاجئين الفلسطينيين إلى أرض فلسطين مرة أخرى. مثل ذلك مشروع من حيث التمنى، ولكن الواقع أمر آخر، وهو أنه لا قيام لدولة فلسطينية إلا بالاتفاق مع إسرائيل ما لم يكن لدى أحد خطة لها فرصة من النجاح لتحرير فلسطين بطريقة أخرى.
إذا كان ذلك كذلك، وكان ذلك هو ما تواضع عليه العرب والفلسطينيون منذ عام ١٩٤٨ حتى الآن، مهما كانت الأحلام والشعارات، فإنه لا يوجد بديل عن فهم تعقيدات العمليات السياسية والدبلوماسية التى تحيط بهذا الواقع الذى نتعامل معه. فبحكم طبيعة هذه العملية فإن اللقاءات المباشرة، والتفاهم على المستقبل وما فيه من قضايا لا يمكن تجنبه، كما لا ينبغى الشعور بالعار منه. الثابت الوحيد فى المسألة برمتها هو الحقائق على الأرض، وقد أقامت إسرائيل الكثير من هذه الحقائق، ولكن هناك حقائق أخرى غير إسرائيلية على الأرض كذلك. هناك حقيقة وجود السلطة الوطنية الفلسطينية ليس فى القاهرة، ولا فى تونس أو بيروت، وإنما فى رام الله وغزة الآن، بعد إعلان حركة حماس الأخير، كما أن هناك الحقيقة الأكبر وهى أنه بين النهر والبحر هناك ١٢ مليون نسمة نصفهم من الفلسطينيين، والنصف الآخر من اليهود. هذه الحقيقة إما أن تتجسد فى دولة واحدة أو دولتين، واحدة منها إسرائيلية قائمة بالفعل، والأخرى فلسطينية واجبة القيام.
الطريق إلى الدولة الفلسطينية لن يكون سهلاً ولكنه ليس مستحيلاً لأن الإسرائيليين لا يمكنهم الاستمرار فى دولة ذات غالبية يهودية، وذلك أصل الفكرة الصهيونية، إلا إذا قبلت بحل الدولتين، وما عدا ذلك سوف يكون دولة واحدة إذا قامت على المساواة والمواطنة فإن الفكرة الصهيونية تصل إلى نهايتها. هنا فإن واجب المفاوض العربى والفلسطينى أن يستمر خلال فترة المفاوضات فى خلق الحقائق على الأرض ببناء المؤسسات والميناء والمطار وغيرها من محددات الدولة، مع توفير مناخ السلام الذى يوفر أسباب استمرار وجود الفلسطينيين على أرض فلسطين، ومع ذلك يعطى الإسرائيليين الفرصة للتعايش، ليس فقط مع الشعب الفلسطينى فى «مجال» سياسى وأمنى، وإنما أيضاً مع الدول العربية الأخرى. أليس ذلك هو جوهر المبادرة العربية للسلام التى تراضت عليها الدول العربية فى قمة بيروت ٢٠٠٢؟!.