للأسف لم أكن بالقاهرة ساعة الدعوة لحضور التوقيع على مذكرات السفير عمرو موسى، التى صدر الجزء الأول منها، ولم أجد وسيلة للحصول على الكتاب من مكانى فى مدينة بوسطن على الساحل الشرقى للولايات المتحدة. صحيفة «الشروق» الغراء كفَت بعض الفضول عندما بدأت فى الاقتطاف من فصول كانت تُنهيها دوما بأن هناك تفاصيل كثيرة فى الأصل مع الوثائق المؤيدة لها، ولكن الاختيار كان موفقا فى خلق قدر غير قليل من الإثارة والتطلع إلى قراءة وتناول الأصل. وفى كل الأحوال فإن التحية واجبة للسيد عمرو موسى على قيامه بهذه الخطوة، خاصة أن أجزاء المذكرات الثلاثة سوف تغطى مرحلة مهمة وواسعة من تاريخ مصر، وهى كما العادة مزيج من شخصية صاحب المذكرات، والأحداث التى يعايشها، وكلاهما مثير، وفيه نكهة متميزة من الصدام والصراع والتنافس الدرامى والميلودرامى أحيانا، مع لمسات من الفكاهة وخفة الدم.
لا أذكر متى قابلت السيد عمرو موسى لأول مرة، ويبدو أنه لم يكن ضروريا أن أقابله حتى أعرفه، فهو من هذه الشخصيات التى ملأت جزءا ما من الفضاء العام حتى قبل أن تقابله. هذا ما يُقال عنه «كاريزما»، التى فيها خليط من السحر والشخصية وبعض التميز، وبالنسبة لعمرو موسى فإن ذلك يأتى فى قالب مصرى خالص وصافٍ. هنا فإن الشخصية تعلو على الدور، فأنت لا ترى فى الرجل «الدبلوماسى» ولا «السياسى» ولا «الشخصية العامة» ذات الأدوار المتعددة، وإنما هو «عمرو موسى» وكفى. فى عالم السينما والمسرح، هناك مَن يذوب فى الشخصية التى يؤديها، وهناك مَن يظل طاغيا عليها، مهما كان فى الشخصية من غنى. على أى حال فإن أول لقاء حقيقى جرى فى قاعة الطعام الخاصة فى الدور الثانى عشر من مبنى الأهرام حينما جمع الأستاذ إبراهيم نافع مجموعة
صغيرة من الكتاب والصحفيين والباحثين للقاء مع السفير عمرو موسى، الذى أصبح وزيرا للخارجية منذ أسابيع قليلة.
ليس صعبا أن تعرف فكر عمرو موسى من أول لقاء، فهو ينتمى إلى مدرسة «عروبية»، ولكنها مدرسة من نوع خاص، وهى تلك التى تقود فيها مصر العالم العربى كنوع من القضاء والقدر بالنسبة لها، وكذلك بالنسبة للدول العربية الأخرى. هى نوع من طبيعة الأشياء، التى فيها نوع من تحدى الزمن وما جرى فيه من تطورات، والواقع وما فيه من حقائق تقطع بأن توازن القوى النسبى بين مصر وبقية الدول العربية قد تغير خلال العقود الماضية، فهل يمكن والحال كذلك أن تتحمل مصر أعباء أكثر مما تحملت؟ حينما أثرت هذه النقطة لأول مرة فإن الرد عليها كان جاهزا ليس فقط لأن القضاء والقدر (أحيانا يُقال عنه الجغرافيا والتاريخ) لا يمكن دفعه، وإنما لأن «الأعباء العربية» لا تمنع مصر من إصلاح التعليم والصحة وتنظيم المرور، وربما النظافة أيضا. النقاش لم ينته عند هذه الإجابة «المنطقية»، ولكنه تكرر بعد ذلك عدة مرات، كان منها عبر سلسلة من الحلقات النقاشية، التى جرت فى وزارة الخارجية المصرية فى نهاية التسعينيات من القرن، وحضرها فيما أذكر الأساتذة لطفى الخولى ومحمد سيد أحمد ود. محمد السيد سعيد، رحمهم الله جميعا، وآخرون. كان الوزير مستمعا جيدا، ومدونا لما يُقال فى لقاءات امتدت لساعات، ولكن الاستماع والتدوين كان أمرا، وما لدى الوزير فى حديثه فى نهاية اللقاء أمر آخر، المهم أن الجميع فى النهاية سوف يمضون إلى سبلهم فى سعادة تامة!.
ورغم هذا الخلاف حول «العروبة»- وما يسميه وزير الخارجية، أمين عام جامعة الدول العربية فيما بعد، مدرسة «الانكفاء» الذاتى (أسميها أنا الكمون الاستراتيجى)- فإن أيا ممن أُتيح له التفاعل مع صاحبنا سوف يشعر دائما بقدر هائل من الود الخاص.
وأذكر أن الخلاف وصل إلى نوع من الصدام فيما يتعلق بالحركة المصرية للسلام العربى- الإسرائيلى، وتصورت أن الخصام لا لقاء بعده، إلا أن أسابيع لم تمر حتى جاءتنى دعوة كما هى العادة القديمة للغداء فى وزارة الخارجية، ولم يكن هناك بد من التسلل فى لحظة للانفراد بالوزير المشغول وسؤاله كما هى العادة عن الأخبار. كانت الإجابة فيها قدر من اللوم: «إنك تعرف كل شىء»، قلت مقاطعا: ما رأيك أن ننسى ما جرى ونبدأ من جديد؟ فما كان منه إلا أن أسَرّ ببعض الأخبار التى تجعلنى أشعر أنه يخصنى بها. مرت الأيام كثيرة فيما بعد، وأُتيحت لى الفرصة لإجراء حوارات تليفزيونية وسياسية مع وزير الخارجية، الأمين العام، ولكن الفترة التى شعرت فيها باقتراب أكثر كانت عندما ترشح لرئاسة الجمهورية، التى كان إيمانى هو أنه بين كل المرشحين كان الأصلح والأقدر، وربما لو فاز لتغير تاريخ مصر الذى نعرفه الآن. أصبحت جزءا من فريق العمل فى الحملة الانتخابية، ولكن المفاجأة لم تكن فقط أنه لم يفز، وإنما أنه جاء خامسا فى الترتيب بعد محمد مرسى وأحمد شفيق وحمدين صباحى وعبدالمنعم أبوالفتوح. أسرار ذلك سوف نعرفها فى الجزء الثالث من المذكرات حينما يدخل السياسى عمرو موسى إلى الحلبة، ويكون مرشحا، ثم رئيسا للجنة الدستور فيما بعد. هناك الكثير مما يُقال، ولكن الانتظار واجب حتى أعود أو أصل إلى المذكرات.