x

عبد المنعم سعيد معركة واشنطن الإعلامية عبد المنعم سعيد الإثنين 11-09-2017 21:21


لن نختلف على أهمية واشنطن لمصر، فهى حقيقة كالقضاء والقدر ليس فقط بالنسبة لنا بل هى كذلك بالنسبة لكل دول العالم. أسباب ذلك لا تحتاج كثيرا من التحرير، وصدق أو لا تصدق أن «المعونة» الأمريكية ليست فى مقدمة الأسباب، ولا هى أهمها، وهى فى كل الأحوال تشكل نسبة ضئيلة من موارد مصر الأجنبية، وإذا احتسبتها بالنسبة للناتج المحلى الإجمالى فإنها لا تشكل قيمة تذكر. أهمية واشنطن تحسب بحسابات أخرى، بقدراتها التكنولوجية، وبشركاتها العابرة للقارات، وعلاقاتها الدولية التى تجعل عددا غير قليل من الدول «الهامة» تتحرك وتستثمر وتعطى حسب حالة العلاقات مع أمريكا. اليابان وأستراليا وكندا وألمانيا وبريطانيا بالطبع وباقى دول الاتحاد الأوروبي؛ وحتى الدول التى لا تدخل فى الفلك الأمريكى مثل الصين والهند فإنها تأخذ العلاقة مع واشنطن فى الاعتبار. المؤسسات والمنظمات الدولية المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية كلها تعطى وزنا كبيرا للولايات المتحدة إما لأنها تملك حق الفيتو أو لأن لها وزنا تصويتيا حافظت على أن يكون له قوة الفيتو؛ وإذا لم يكن ذلك متوافرا فإن لديها من أدوات الدعاية والإعلام والحركة الدبلوماسية ما يعطيها قدرات كبيرة.

الاعتراف بأهمية واشنطن لا يعنى إطلاقا الاستسلام لها أو لما تريده؛ وعندما قال الرئيس السادات ذات يوم إن الولايات المتحدة تملك ٩٩٪ من أوراق اللعبة فى الشرق الأوسط فإنه لم يكن يعنى أبدا التسليم بما تراه، وإنما كان يعنى جهدا أكبر للتأثير فيها، ودفعها فى اتجاهات نريدها أن تذهب إليها، وكانت النتيجة التى يريدها الجلاء الإسرائيلى من الأراضى المصرية المحتلة فى يونيو ١٩٦٧. وعلى أى الأحوال فإن أمريكا لم تعد كما كانت، فالدول تحسب قوتها ليس بقدراتها المطلقة، وإنما بنسبة هذه القدرات إلى قدرات الدول الأخرى. وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية كانت أمريكا تنتج أكثر من ٥٠٪ من الناتج العالمى؛ ولكن مع الانتعاش فى أوروبا واليابان تقلص ذلك القدر إلى الخمس؛ وفى أعقاب انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى أصبحت الولايات المتحدة هى القوة العظمى الوحيدة فى العالم. وبعد أكثر من ربع قرن مما جرى فإن القوة العظمى الوحيدة لم تعد كذلك بعد أن أصبحت القوة مبعثرة ما بين مصادر كثيرة للقوة، ودخلت الصين والهند وروسيا ربما ليس إلى عالم الدول العظمى، ولكن قدرها من الكبر جعل قدر أمريكا يتواضع خاصة بعد سلسلة من الحماقات التاريخية فى أفغانستان والعراق جعلها تترنج ما بين مزيد من التورط، أو مزيد من الانسحاب. انتخاب دونالد ترامب أيا كان التقييم له، ولعلاقته بنا، أضاف انقساما إلى السياسة الأمريكية ليس على الطريقة القديمة بين المؤسسات، وإنما على طريقة دول أخرى يسود التوتر فيها بين الأجناس والأعراق والتوجهات السياسية وتلتهب فيها نظريات المؤامرة والتوجس والشكوك.

حالة أمريكا ليست موضوعنا على أى حال، وإنما كان تقدير ذلك ضروريا لما سوف يأتى من حديث. فقد وصلت إلى الولايات المتحدة فى رحلتى السنوية للتدريس على مدى الأسابيع الستة القادمة لكى أجد على هامش الصراع السياسى الجارى بين الليبراليين والديمقراطيين فى ناحية، والمحافظين القوميين وعلى رأسهم دونالد ترامب فى ناحية أخرى، أنه تم أخذ مصر فى الطريق مشكلا عاصفة أخذت أشكالا عدة: مقالات فى الصحف الرئيسية خاصة النيويورك تايمز، الواشنطن بوست، جلسة استماع أمام لجنة العلاقات الخارجية فى مجلس الشيوخ يتحدث فيها جماعة محترفى انتقاد مصر وفى المقدمة منهم السيدة ميشيل دان، أحاديث تليفزيونية متنوعة فى ال CNN، وبالطبع تقرير يظهر كالعادة من منظمة «هيومان رايتس واتش» عن الحالة السياسة فى مصر. بعض من كل ذلك ليس الهدف منه مصر وحدها وإنما الرئيس ترامب نظرا لما يبدو فى الساحة الأمريكية من علاقة إيجابية بينه وبين الرئيس عبدالفتاح السيسى وإشادته به ودوره فى محاربة الإرهاب. الحملة هكذا هى جزء من المعركة السياسية الراهنة والتى لم تشهد واشنطن مثيلا لها من قبل ربما منذ الإطاحة بالرئيس نيكسون عام ١٩٧٥. ولكن هذا الجزء من الهجوم على مصر حديث نسبيا وجذوره كانت قوية ما قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بل إنها شهدت ازدهارا قويا فى عهد الرئيس السابق باراك أوباما وكان لها نجوم تشكل سياسته الخارجية إزاء الشرق الأوسط ومصر قى قلبها. شخصيات مثل ميشيل دان وتمارا ويتس ومارك لينش، وحينما أراد ستيفن كوك فى مجلس الشؤون الخارجية أن ينال من ترامب ومصر فى مقالة واحدة ادعى أن ترامب سوف يأخذ أمريكا فى الاتجاه الذى سارت فيه مصر وراح يعدد مؤشرات التدهور والتراجع. وللتذكرة فقط فإن ستيفن كوك كان هو الذى بشر الجماعة الأمريكية بأن مصر فى طريقها إلى الإفلاس منذ عام؛ ومضى العام ولم تفلس مصر فقط وإنما زادت احتياطاتها، وقويت عملتها، وانخفض لديها العجز فى الموازنة، وكذلك ميزانها التجارى.

سوف نعود إلى كل ذلك مرة أخرى، ولكن خلاصتنا أن هناك فى واشنطن معركة تخص مصر، وهى معركة ليست أمريكية خالصة أو من الأمريكيين الذى تصوروا مستقبلا للشرق الأوسط يقوم على التصالح مع جماعة الإخوان المسلمين «المعتدلة» و«الليبرالية» لكى تقود الطريق إلى الديمقراطية على الطريقة التركية الأردوغانية. هذه المعركة تتقاسمها جماعة أمريكية مع جماعة مصرية أخرى تضم جماعة الإخوان المسلمين لأسباب لا داعى للتفصيل فيها؛ وجماعة أخرى «ليبرالية» ضمت مصريين ممن ظنوا أن مكانتهم فى مصر قامت على تراث ثورة يناير مع تجاهل الميراث الإخوانى لها. هذه وتلك تقيمان منطقا متكاملا للدعاية يقوم على النقاط التالية: أن مصر فقدت أهميتها فى المنطقة؛ وأن «التغيير» الذى جرى فيها فى ٣٠ يونيو كان مجرد انقلاب عسكرى أدى إلى سيطرة القوات المسلحة على السياسة والاقتصاد فى المجتمع، وأن هذا التوجه سوف يؤدى إلى انهيار مصر الاقتصادى وفشلها الاجتماعي؛ وللتغطية على كل هذه العلل فإن مصر قد باتت «سجنا مفتوحا» تجرى فيه عمليات التعذيب والاضطهاد ومخالفات حقوق الإنسان. أيا كان الكاتب أو المتحدث عن مصر فسوف تجد تفاصيل هذه القائمة؛ وسيكون المسكوت عنه الذى لا يرد هو كلمات مثل «الإرهاب» وإذا ذكرت فسوف يكون فى متن الشماتة، أو للتدليل على الفشل، أو للتأكيد على أن أصول الإرهاب تعود إلى معاملة وزارة الداخلية المصرية للمسجونين. ليس مهما لا الإرهاب الذى جرى فى الولايات المتحدة، أو الذى يجرى فى وجودها فى أفغانستان أو العراق أو فى أوروبا، فأى من ذلك يصعب اتهام وزارة الداخلية المصرية به ومن ثم فهو ليس موضوع الساعة!.

كل هذا المنطق يتهاوى أمام الحقائق التى نعرفها عن دور مصر فى أزمات المنطقة المتعددة، أو بالنسبة للشجاعة التى تواجه بها مصر معضلاتها الاقتصادية وما ترتب على ذلك من نتائج إيجابية يمكن مشاهدتها فى تقارير دولية عديدة، ولكن المشاهد أن المعركة فى واشنطن تدار من جانب واحد، ولا يفيدنا كثيرا الدفاع برفض التدخل فى الشؤون الداخلية المصرية، أو المعايرة بأن الولايات المتحدة فيها النسبة الأعلى من المساجين فى العالم، أو الصمت والسكوت حينما يجب الكلام. ما نحتاجه استراتيجية متكاملة، وهجوم إعلامى كبير يقوم على الحقائق والأرقام ووضع الأمور فى نصابها الصحيح. تفاصيل ذلك موعدها الأسبوع القادم.

د.عبد المنعم سعيد

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية