لم أتعود على كتابة المسلسلات فى المقالات لأن القارئ الكريم لديه صبر قليل فى التعامل مع الموضوعات؛ وتفضيله أن يكون لكل مقال قصته. هذه المرة على سبيل الاستثناء هى ملحق وعدت به فى مقال الأسبوع الماضى «معركة واشنطن الإعلامية» والذى يمكن تلخيصه فى ثلاث نقاط: الأولى أن الولايات المتحدة من الأهمية بحيث لا يمكن تجاهلها؛ والثانية أن هناك حملة منظمة على مصر وهى مستمرة منذ ثورة يونيو ٢٠١٣، وهى ممتدة منذ عهد باراك أوباما، وفى كل الأحوال فإنها تستفيد من الاضطراب القائم فى إدارة دوالد ترامب، وقوامها أن مصر فقدت أهميتها وأنها متعثرة اقتصاديا ولديها مخالفات جسيمة لحقوق الإنسان؛ والثالثة أننا نحتاج إلى استراتيجية إعلامية، وحينما نتحدث عن ذلك فإنها لا تعنى الفوز فى مجادلات عقيمة، أو الانتصار فى مسابقات «الردح»، وإنما تغيير السياسات والتوجهات السلبية الأمريكية تجاه مصر. هنا فإن الإعلام يكون واحدا من أدوات السياسة الخارجية مثله مثل الدبلوماسية، وأدوات إداراة العلاقات السياسية الدولية فى عمومها من أول التعامل مع التناقضات وحتى ممارسة التحالفات. وكما هو الحال مع كل الإستراتيجيات فإن الموضوع يقتضى أهدافا واضحة، ووسائل لتحقيقها، وتعبئة لموارد تجعل الوسائل فاعلة، والأهداف قريبة.
الإعلام المصرى هنا فى واشنطن يعطى القيادة الأمريكية فى البيت الأبيض مساحة أكبر من القدرة على التعاون مع مصر فى قضايا تهمها، ليس فقط التنمية الاقتصادية، وإنما أيضا الأمن الإقليمى بما فيه تحقيق الاستقرار فى منطقة مزقتها عواصف «الربيع العربى» التى قادت إلى أعاصير الإرهاب المتأسلم، والغزو ثم الانسحاب الأمريكى من المنطقة، والتحركات الإيرانية والتركية فيما يبدو لهما فراغا استراتيجيا، وأخيرا استمرار الاحتلال الإسرائيلى لأراض عربية. صياغة ذلك إعلاميا، وشرح وجهة نظرنا فى كل القضايا المترتبة عليه يبدأ بأن تكون القصة المصرية جلية وواضحة وضوح شمس صيف. قصتنا ليست اعتذارا لأحد عما نقوم به، فنحن نعرف حدودنا وما نجحنا وما أخفقنا فيه، وإنما هى التى تجعل التفاعل مع أمريكا ناضجا وقائما على الحقائق الكاملة وليس على مجموعة من الحقائق الناقصة والأكاذيب والتشهير والحرب بالوكالة ليس عن المصالح الأمريكية، وإنما عن مصالح جماعة إرهابية مثل الإخوان المسلمين. ما نحتاجه هو سلسلة من «الكتب البيضاء» باللغة الإنجليزية، ومتخذة أشكالا ورقية ورقمية ومسموعة ومرئية عما جرى فى مصر خلال السنوات السبع الماضية مع التركيز على ما جرى فى ٣٠ يونيو، وما حدث فى «رابعة»، والقصة الكاملة لمكافحة مصر للإرهاب وما قدمته من تضحيات كبيرة، ومسيرة مصر الاقتصادية وفتحها لملفات ظلت مستعصية على أجيال سابقة. أذكر أننى كتبت مقالا يفصل فى الموضوع تحت عنوان «الخطايا العشر فى القصة الأمريكية» (الشرق الأوسط 2013/9/4)، وآخر بعنوان «الخطايا الأصلية فى السمعة المصرية»(الأهرام ١/٦/ ٢٠١٦)؛ وفى كليهما وضعت قائمة بما نحتاج توضيحه وشرحه.
القصة المصرية فى عمومها ربما كانت أكبر من الأحداث التى جرت لأنها نتيجة التطور التاريخى المصرى الذى يجاهد من أجل الخروج من التخلف مع المساهمة فى الحضارة العالمية. بالطبع فإنه من الصعب التخلص من تاريخ ثقيل بين ليلة وضحاها، ولكن هناك وعيا كبيرا بأن المسارات السابقة التى سرنا فيها لم توصلنا إلى ما نريده، وأحيانا أخذتنا إلى الخلف. النتيجة أننا نحتاج قوة دفع، وطاقة كبيرة لاختراق حجب وصعوبات كبرى تظهر فى أدائنا الداخلى، كما نحتاج الأدوات التى تستطيع ترجمة ذلك كله إلى رسائل إعلامية إلى العالم الخارجى بما فيه الولايات المتحدة. ومع كل التقدير للجهود التى تبذلها وزارة الخارجية، وسفارتنا فى واشنطن، فإن هذه الجهود لا تزال أقل من العاصفة الكبيرة فى العاصمة الأمريكية. وبالمقارنة مع الوقت الذى كان فيه السفير سامح شكرى سفيرنا فى واشنطن، ومن قبله السفير نبيل فهمى، والسفير أحمد ماهر، رحمه الله، فإن الحركة الدبلوماسية والإعلامية المصرية أقل بكثير، رغم أن التحديات والضغوط باتت أكثر. كان الدبلوماسيون المصريون يجوبون أروقة الكونجرس، ولديهم علاقات شخصية مع كتاب الصحف الرئيسية، وكبار الباحثين فى مراكز البحوث، ومع ذلك تكونت مجموعات عمل لتغذية شركات العلاقات العامة التى لا تعمل بكفاءة دون تغذية قوية من البلد المطلوب الدفاع عنه. ومن عجب أن المكتب الإعلامى فى واشنطن توقف عن العمل فى وقت مصر فى حاجة إليه؛ وفى يقينى أن الزميل والصديق ضياء رشوان رئيس الهيئة العامة للاستعلامات لا يعلم فقط بكل ما سبق، وإنما يمكنه بتأييد شامل من الدولة أن يبدأ رحلة متعددة الأبعاد ليس فقط للتعامل مع واشنطن، وإنما أيضا مع عواصم هامة أخرى.
ولكن وسائلنا ليست رسمية فقط وإنما لا يقل عنها أهمية الوسائل غير الرسمية من أول الجمعيات الأهلية، وحتى مراكز البحوث ذات السمعة الدولية. نعلم أن هناك انتقادا دوليا واسعا لقانون الجمعيات الأهلية، ولكن القضية هى أن القانون منتقد أيضا من داخل مصر، وهناك مؤسسة مثل المجلس القومى لحقوق الإنسان لها ملاحظاتها وتحفظاتها على طريقتنا فى إدارة أمور الجمعيات وبالذات تلك المعروفة بالحقوقية ينبغى أخذها فى الاعتبار. هنا فإن استراتيجيتنا الإعلامية لا تقوم على الإنكار والزعم بالكمال، وإنما أن الكمال ليس فقط لله وحده، وإنما أن مصر دولة مثلها مثل الكثير من دول العالم تتعامل مع نفس المعضلات التى تواجهها دول العالم الأخرى فى إقرار التوازن بين الأمن والحرية، وبين الاستقلال والتعاون فى العلاقات الدولية، وبين السيادة والعولمة، وبين الخصوصية والإنسانية. وما يوضح حالنا هو المعلومات التى تبين أين نقف، وإلى أين نتجه، فى كل القضايا المثارة. الموضوع ليس الرد على منظمة هيومان رايتس واتش، ليس لأنها «مشبوهة» فتلك مشكلة أمريكية، ولكن مشكلتنا معها أنها مخطئة فى الكثير مما يخص مصر. فحينما تعوزها الحجة تلجأ إلى «مصادر إعلامية» تنسب لها ما تعتبره الحقيقة المقدسة؛ وهى تؤكد على ضرورة احترام القانون ولكنها تعترض على الكثير من أحكام المحاكم وتوجهات النيابة العامة؛ وهى تضع أرقاما تخص «الاختفاء القسرى» اعتمادا على لجان وجمعيات لا تتمتع بأى قدر من المصداقية، فضلا عن تناقضات كبيرة فى الأرقام التى تطرحها، أما الفيديوهات التى تذيعها عن «التعذيب» فإنها تنطق بأن الراوى يستحيل أن يكون رجلا تعرض للتعذيب.
تفاصيل الأمر فى التقارير، والشهادات فى الكونجرس، والمقالات فى الصحف، والأقوال فى الشبكات التليفزيونية، كثيرة ومتعددة، وكلها تحتاج رصدا متأنيا، وفحصا ومراجعة للحقائق، وبعد ذلك فإن وسائل الرد والطرح كثيرة. وفى واشنطن فإنه ليس كلها أعداء، فرغم كثرتهم فإن هناك حلفاء طبيعيين لمصر، وبعضهم فى الحزب الجمهورى، وبعضهم الآخر فى مراكز البحوث، وبعضهم الثالث فى الشركات التى تتعامل مع مصر والدول العربية الحليفة، وبعضهم الرابع فى مؤسسات أمريكية مثل وزارة الدفاع تعرف جيدا المصالح الأمريكية المصرية المشتركة خاصة بعد استئناف مناورات «النجم الساطع» مرة أخرى، وهناك بالطبع الجالية المصرية التى لم يصل لها الإخوان المسلمون بعد. استخدام ذلك كله يحتاج قدرا كبيرا من الاحتراف والمهنية التى تدير وتشرح، والموارد المادية التى تعبئ وتحرك. بقى أن نعرف أن معركة واشنطن تستحق الدخول فيها، والفوز فيها ممكن، المهم أن نبدأ.