تصر الحكومة على مخاطبة شرائح من المجتمع تطلق عليها عادة الفئات البسيطة والفقيرة والمحتاجة.. إلخ، وهي غالبا ما تكون «أمية» أو «جاهلة بشؤون العالم»، والسبب قد يكون سهولة ترويج قراراتها ودغدغة مشاعرها، خصوصًا في وقت الأزمات أو الاحتماء بها وقت الحاجة! ولهذه الفئات كل الاحترام والتقدير بالتأكيد، ولكن أن تُحيَد فئة مثقفة وذكية، وهي شريحة لها عظيم الأثر وإن قل عددها، فهذا استفزاز علني خصوصا إن كان متعمدًا!.
يجب على الدولة أن تعي بأن فئة «المتعلمين الجهلة» الذين يسهل استقطابهم واستخدامهم لدعم أي قرارات والتهليل لها بصرف النظر هم أخطر عليها من فئات الشعب الذكية والمثقفة والمخلصة! فالقراءة والكتابة هما فقط مجرد أدوات للحصول على المعرفة والبحث والاستقصاء، لكن قليلين من يستخدمونها في هذا الشأن! والأفضل أن تخاطب الدولة كل الطبقات بشفافية واحترام، خصوصا المثقفين الأذكياء إن أرادت أن تتقدم، حتى ولو كثرت انتقاداتهم بسبب حبهم الشديد للوطن، فكما قال ونستون تشرشل يومًا: «قد لا يكون الانتقاد مقبولًا لكنه ضروري، فهو كالألم في جسم الإنسان ينبهك إلى أن هناك أمورًا غير صحية»، وإن «الحقيقة لا تقبل الجدل.. قد يهاجمها الحقد والأذى ويسخر منها الجهل لكنها في النهاية هي الحقيقة».
وللتوضيح فإن الجهل له تعاريف مختلفة، فهو في الاصطلاح العلمي ثلاثة أقسام منها: البسيط وهو «فهم مسألة دون إحاطة كاملة»، والكامل وهو «خلاف العلم أي أن صاحبها لا يعلم من المسـألة شيئا»، ومركب وهو أسوأ أنواع الجهل وهو «فهم الأمر خلاف ما هو عليه» وقد يكون أيضًا الاعتقاد الفاسد علميا ومنطقيا وفطريا.. والجهل في بعض المعاجم يعني نقص المعرفة والمعلومات والتعليم والوعي...! و«الأمي» قد يكون أفضل من المتعلم الجاهل بالحكمة والخبرة العملية!.
الحقيقة أن الحكومة أحيانًا كالإعلام الهابط لا تخاطب الأذكياء والمثقفين والمخلصين المحترمين من طبقات الشعب بل تدغدغ مشاعر الطبقات الجاهلة بكل أنواعها، ولا تتسم تصريحات مسؤوليها بالشفافية والانسجام والتناسق والذكاء ما أثر سلبًا على صورة الدولة واقتصادها.. والموضوع لا يحتاج إلى جهد لشرحه، فتعامل الحكومة مع الأزمات الأخيرة خير دليل على هذا!.
قد نكون مخطئين، ولن ندعي علمًا بأمور لا نعرفها، لكن نريد من محتكري المعرفة أن يشاركوننا فيها فنحن من ندفع ثمن قراراتهم، بدلًا من أن نسمع تصريحات غريبة! حتى وفاة العالم المبدع والعبقري الدكتور زويل استخدمت بشكل مبالغ فيه وبطريقة استفزازية من قبل «البعض».. غريب عجيب هذا الشعب الذي يعظم ويحترم علماءه وعباقرته بعد مماتهم ويحاربهم وهم أحياء...! إن هناك آلافًا مثل الدكتور زويل في كل المجالات، فماذا فعلت الحكومة معهم؟ ومنهم من ضحى بالكثير من أجل مساعدة بلاده تاركا وراءه حياة أكثر ثراء ويسرا ومجتمعات تقدره، وعاد بعلمه وخبراته إلى بلاده ليقدم خدماته فإذا بدائرة الفاسدين والحاقدين والحاسدين والجهلة له بالمرصاد!.
والآن في التعامل مع قرض صندوق النقد الدولي نرى تصريحات لذات الطبقة مثلا «لن يتأثر محدودو الدخل»، وسننفذ «برنامجنا الاقتصادي وليس برنامج أحد!»...ومسؤولون يتحدثون عن وقف استيراد السلع «الاستفزازية» وتشجيع المواطنين على شراء «المنتج المصري» بدلًا من المستورد!، وأن الدولة ستمنح «الإقامة» لأصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين الأجانب (وهو تقليد تعمل به بعض الدول الخليجية لكنها وفرت خدمات وتسهيلات وبنى تحتية متطورة جدا قبل أن تطرح الفكرة!).. إلخ، والبديهي أن لصندوق النقد الدولي شروطًا لا محالة، أليس في هذه التصريحات استفزاز! أين الشفافية في الطرح؟
تذكرت مقابلتي مع رئيس وزراء ماليزيا السابق، دكتور مهاتير محمد، في مكتبه بالعاصمة الإدارية التي بناها قبل نحو سبعة عشر عامًا، وكان رجلا متواضعا ولم يطلب مني الأسئلة مسبقا، واندهشت عندما بُلغت قبل اللقاء بألا نبالغ في ارتداء الملابس الرسمية، لأن ملابسه عادية، ولم ألحظ أي تواجد أمني كثيف، وأخذني في جولة داخل العاصمة الإدارية خارج كوالالمبور، وشرح لي كيف اختار هذه البقعة الجميلة المحاطة بطبيعة خلابة حتى تكون مصدر إلهام للجميع، وسألته ماذا تفعل في وقت الأزمات؟ فأخذني إلى قاعة اجتماعات بسيطة الإمكانات وقال: «أستدعي كل من لهم علاقة بالموضوع وكل الوزراء وأمنع أي أحد من المغادرة حتى نجد حلاً ولو تطلب أن نجلس هنا أياما وأياما ونعيش على الوجبات السريعة»، وعندما سألته: «يطلقون عليك الديكتاتور الحنون أو المستنير إن صح التعبير، وأنك تناور من أجل السلطة ولن تسلمها كما وعدت»، فابتسم وقال لي ببساطة: نعم في «المرحلة الانتقالية» في أي بلد لابد أن تمارس نوعا من الديكتاتورية، لكن قبل أن تمارسها يجب عليك معرفة ودراسة ما تنوي عمله. وأخذني ليعرفني برئيس الوزراء القادم تأكيدا لي بأنه سيسلم السلطة كما وعد لمن سيخلفه بعد أن وضع ماليزيا على خارطة الدول الصناعية والاقتصادية المتقدمة، وسألته أيضا لماذا لا تقترض ماليزيا من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي خصوصا بعد الأزمة الاقتصادية التي مرت بها؟ فقال: «إن اقترضت من صندوق النقد الدولي فإنك تسلم له رقبتك!!!». والدكتور مهاتير ناشط سياسي ومفكر وكاتب قبل أن يكون رئيس وزراء بلاده.
ليت حكوماتنا تتوقف عن مخاطبة الطبقة الذكية المثقفة بنوع من الاستخفاف الشديد الذي يدفع بها أحيانا إلى «الجنون أو الهروب أو الاكتئاب!» إن دعم تلك الطبقة لها أكثر إفادة وقوة إن خاطبتها بشفافية واحترام! إن لدينا كنوزا من الموارد البشرية والطبيعية لو أحسن استخدامها سنصبح من أغنى الدول وأكثرها قوة ونفوذاً.. الإدارة الجيدة هي سر النجاح.