مر علينا أسبوع دامي بينما يحاول العالم التقاط أنفاسه بين كل حادث مفزع وآخر، وللأسف بعض تلك الأحداث أبطالها عرب ومسلمون آخرها شاب أفغاني عمره سبعة عشر عاما يعتدي بسكين على ركاب قطار مسالمين في ألمانيا التي منحته حق اللجوء السياسي، سبقه هجوم على مركز شرطة بكازاخستان خلف قتلى وجرحى لكن محاولة الانقلاب في تركيا ضغت على كل العناوين الرئيسية للأخبار بما فيها الحادثة الإرهابية البشعة في مدينة نيس في فرنسا.
المشهد التركي كان الأهم للجمهور العربي ولا يهمني هنا المؤيدون والمعارضون لمحاولة الانقلاب لكن كيفية التعامل مع الحدث خصوصا من قبل الإعلام العربي، حيث إننا نشهد عقب كل حادث إرهابي أو حدث سياسي مهم وابلا من «الشماتة» و«السخرية» أحيانا و«الجهل بالآخر» أحيانا أخرى و«تزييفا للحقائق» مرات وشتائم وإهانات من «كل الأطراف» واستغلالا للحدث لأجندات شخصية مع قليل من الحكمة والتروي في الرأي من قبل حفنة قليلة جدا من الإعلاميين المهنيين.
من تابع تغطية وسائل الإعلام العربية لمحاولة الانقلاب في تركيا قد يتذكر ما يعرف بـ«الربيع العربي» عندما كشفت معظم القنوات التليفزيونية ووسائل الإعلام أجندتها وصارت تروج لطرف ضد الآخر في حرب مكشوفة وتبدلت من آن إلى آخر حسب المنتصر، وفقدت مصداقيتها التي تروج لها دائما! الفارق إن «الربيع العربي» استمر أيام وأسابيع، بينما محاولة الانقلاب استمرت نحو ساعتين فكان التبدل السريع محرجا للكثيرين! الأمثلة كثيرة لقنوات وصحف عربية معروفة نشرت أخبارا غير صحيحة وبدلت مواقفها، ومواقع إلكترونية غيرت من عناوينها على حياء، والبعض نشر ترجمات لأخبار وآراء صحفيين أجانب تناسب مواقف سياسية معينة مع قليل من الحذف والتعديل!!! الطرف الآخر لم يكن أفضل حالا على الإطلاق من تلفيق بعض الأخبار إلى تعبئة الجماهير!... لقد تحول الإعلام العربي مرة أخرى إلى «شو مبهر» يعكس أجندات الدول وأحيانا ما يخطب ود مسؤولين وسياسيين هم أنفسهم لا يريدونه وأصبح دقة الخبر ومصداقيته آخر هموم «السلطة الرابعة» في العالم العربي ولا يهم هنا إن نجح الانقلاب أو فشل!
مقالات الرأي باستثناء القليل العاقل والمثقف منها امتلأ بعضها بـ«لعن» الخصوم واتهامهم بالغباء والجهل مستخدمين ألفاظا لا تليق في بعض الأحيان!، والبعض الآخر عبر عن مشاعره بلا حقائق ومعلومات تدعمها، وخلت الكثير من المقالات من أي تحليل عميق فغالبها «مشاعر فياضة» وحواديت موجهة لطرف ما «والطريف أيضا أن كثيرين منهم لا يعرف الفارق بين (فيس بوك مسنجر) و(سكايبي) و(فيس تايم)»، وكما يقول السيد آنشيتاين: «هؤلاء غير المبالين بالحقائق في الأمور البسيطة لا يجب أن تثق بهم في الأمور المهمة».
مواقع وسائل التواصل الاجتماعي خصوصا الفيس بوك شهد أيضا اندفاعا غير منطقيا في الحكم على الأحداث ملغوما أحيانا بالشتائم وتبادل الاتهامات وبث أخبار غير مؤكدة وغيرها من الأمور، والمخجل أن بعضهم صحفيون... التهور والاندفاع يعكسان عدم النضج الفكري والسياسي في المجتمعات «العاطفية» إن صح التعبير! صحيح قليل منهم كان يتسم بالحكمة في القول لكن الأداء العام فوضوي منفعل ومندفع ومشاعر فياضة من كل الأطراف!
إن أكثر ما يقلق الانسان المتحضر المحب للسلام في كل مكان ليس اختلافات السياسيين لكن احتقان المشاعر الغاضبة بين الشعوب فالسياسيون عندما يخطأون غالبا ما يدفع ثمن أخطائهم أبرياء، كما أن الشعوب كلها متشابهة تقريبا في حاجاتها ورغباتها أكثر من السياسيين أما وإن انتشرت الكراهية والحقد وضغت الأفكار المتطرفة فحرب الشعوب هي الأكثر فتكا بكوكب الأرض فهي تبدأ من انقسامات الشعب الواحد قبل أن تمتد إلى حدود الشعوب الأخرى والأمثلة كثيرة من حولنا. السبب الأول لتلك الحرب سيكون تعبئة فئات من الشعب ضد أخرى لمصالح شخصية، والسبب الثاني هو امتلاك بعض رجال الدول «العاطفية» الذين يغلب عليهم العصبية الدينية أو القبلية للسلاح، والسبب الثالث للأسف مصدره هو «السلطة الرابعة»... أي الصحفيون الذين يقدمون جرعات من الكراهية والحقد والجهل والاندفاع والتضليل وإثارة الرأي العام لإرضاء بعض صانعي القرار بشكل تطوعي أحيانا ليكونوا ملكيين أكثر من الملك!
من هنا يمكن أن نفهم خطورة تغليب المشاعر على العقل والمنطق والحقائق، والمغالاة في رد الفعل وأتذكر كلمة للممثل الراحل عمر الشريف عندما سألته مذيعة في إحدى اللقاءات التليفزيونية: ما الفارق بين التمثيل في هوليوود والسينما في عالمنا؟ فقال ببساطة في هوليوود يطلب منك أن تؤدي دورك بشكل طبيعي أما هنا فيطلب منك المبالغة في الأداء إما بالصوت أو بالحركة!
يجب أن نحترم الناس وأن نزودهم بالحقائق والمعلومات الدقيقة ونترك الحكم لهم حتى لو كنا نتمنى وقوع ذلك الحدث، أو أننا نكره شخصا لا نتفق معه في الرأي أو الرؤية، أو دولة لا يعجبنا سلوكها ولا نتحيز إذا كنا فعلا نريد إعلاما حقيقيا، وأتحدث هنا بالتحديد عن الصحف الرئيسية والقنوات الإخبارية المعروفة التي تتحدث دائما عن المصداقية والموضوعية!
على «الإعلام العاطفي» في عالمنا أن يتعلم كيف يتعامل مع الأزمات بشكل مهني وراق وذكي ومحنك فنحن ننتقد الآخرين ونتهمهم بالمؤامرات قبل أن نصلح من أنفسنا، كما يجب على الإعلام التقيد بأخلاق المهنة وعدم بث الفتن بين الشعوب بالجهل والاندفاع والتهور، بإمكاننا أن نكون الأفضل، وللإعلام دور مهم في هذه المعادلة أما الديمقراطية فلها حديث آخر!
أتعجب أحيانا لماذا تخشى الدول المتحضرة صغيرها وكبيرها من أن تقع الأسلحة النووية في أيدي من يؤمنون بالغاية تبرر الوسيلة من أصحاب الأيدليوجيات الدينية المتطرفة والعواطف المرهفة والحساسية المفرطة وباختصار الدول «العاطفية»، خصوصا بعد أن عرف العالم مدى خطورتها من «حماقة أمريكية» في هيروشيما ونجازاكي قبل أكثر من سبعين عاما!