x

هيثم الغيتاوي لا صوت يعلو فوق صوت «الاحتفال» هيثم الغيتاوي الأحد 07-08-2016 00:40


احتفالا بمرور ‏50‏ عاما على تأميم قناة السويس، بادرت الحكومة الفرنسية في 2006 بتسليم مصر 40 كرتونة تضم أكثر من ‏2330‏ «سي دي» – تخيّل العدد- تشمل الأرشيف الكامل لوثائق قناة السويس، وتم الإعداد والطبع والنقل على نفقة الحكومة الفرنسية.. فهل نحترم حاليا – ونحن نحتفل بذكرى افتتاح القناة الجديدة- معنى وقيمة الوثائق والحقائق كما احترمتها دولة سبق وأن حاولت احتلالنا طمعًا في القناة نفسها؟ أم اكتفينا كعادتنا بوضع (الحقائق والأربعين كرتونة) في مكتبة الإسكندرية، «مخزننا الكبير» لكل ما نفشل في الاستفادة منه؟

ما حدث خلال العام الماضي، ولا يزال يحدث عند كل حديث عن قناة السويس الثانية، أو التفريعة الجديدة، أو سمّها كما تشاء، يخبرنا بإجابة (ليست مفاجئة) أبدا.. لم نستفد من هذا الدرس التوثيقي المعلوماتي، وإلّا ما كنا نشغل أنفسنا حاليا بإطلاق وتمويل كتائب «المبرراتية»، ونهدر طاقات الجميع في التدليس والتدليس المضاد، بدلا من إعلان الحقائق بشجاعة، وتقييم جدوى خطواتنا ومشروعاتنا بصدق وشفافية، أمام أنفسنا قبل الآخرين. لا لشيء إلا لتجنب تكرار ما نفشل فيه، وتعظيم الاستفادة مما ننجزه.

(2)

«لا البيضة ولا حتى الفرخة»!

يقول الضيف مخلصًا: إن مشروع قناة السويس لو تم إنجازه في جدوله الزمني الطبيعي، لما اضطرت الدولة إلى جلب 6 شركات عالمية تساعد في إنجاز المشروع خلال (عام واحد) تلبية لـ«رغبة الرئيس»، لأن هذه الشركات تقاضت أجورها كاملة بالدولار، خلال فترة قصيرة لا تتحملها موارد الدولة من العملة الصعبة، ما جعل المشروع –في جانب منه – أحد أسباب أزمة الدولار حاليا، خصوصا وأن المشروع – على غير ما روّج له – لم يجلب لخزينة الدولة دولارات بقدر ما أخذ منها، في ظل تباطؤ حركة التجارة العالمية.

فتُسرع المذيعة التي اقتصرت خبرتها لسنوات طويلة على تقديم برامج المسابقات الترفيهية في رمضان، وزوجها كذلك، فترد على الضيف ردا سخيفا لا غرض منه إلا الحفاظ على الأجواء الاحتفالية للحلقة، فهي تؤمن كغيرها بأن «لا صوت يعلو فوق صوت الاحتفال»، فتقول بكل ثقة: (بس كده الإنجاز أكبر. لأننا خلصنا بسرعة ودفعنا للشركات الأجنبية دولارات من اللي كان سعرها 7 جنيه ونص، لو كنا تأخرنا في تنفيذ المشروع، كان زمانا بندفع للشركات دي دولار من اللّي سعره 12 جنيه ونص).

هكذا بكل «بلاهة» ينفذ هؤلاء «التعليمات» دون حتى أن يرهقوا عقولهم المحدودة في اختلاق مبرر لائق لهذا «اللامنطق». بدلا من ذلك يرددون كلاما أقل ما يوصف به أنه معكوس، على طريقة (البيضة أولا أم الفرخة؟).. (ارتفاع سعر الدولار أولا، أم إهداره بعشوائية؟).

(3)

السرعة أولى أم التخطيط؟

ليس موقفا للمذيعة وحدها، إنما مجرد مثال حدث بالفعل، يعبر عن موقف شبه عام تفرضه أجواء الاحتفالات عادةً. وإن تحدث أحدهم بجدية عن تقييم موضوعي لنستفيد درسا فيما هو قادم من مشروعات، فهو في نظر المحتفلين «الراقصين» مجرد واحد من «عواجيز الفرح»!

قِف «جنب اخواتك» في الصف. احتفِل فقط. وإن سمعت أحدهم يصرخ بحسم: إن الإنجاز تم بأيدٍ مصرية خالصة، لا تفسد عليه فرحته بأن تقول له معلومة – ليست سرًا – أن الحكومة كانت قد وقّعت عقودا مع التحالفين الفائزين بأعمال التكريك لقناة السويس الجديدة يضم شركات (أمريكية وإماراتية وهولندية وبلجيكية) للتغلب على عامل ضيق الوقت، الذي فرضه الرئيس!

لا تكن «غِلس»، وتذكّره بما نشرته مثلا السفارة الهولندية في مصر يوم الاحتفال بافتتاح القناة (قامت الشركتين الهولنديتين بوسكالس وفان أورد، ضمن تحالف ضم شركاء آخرين، بأعمال التكريك محققين رقما قياسيا برفع 200 مليون متر مكعب من الرمال والطمي والصخور في أقل من 9 أشهر.. يمكننا معا تحطيم الأرقام القياسية).. وهي صيغة مستفزة، وكأن الإنجاز هولندي بالدرجة الأولى!

فهل يكون الإنجاز في السرعة في حد ذاتها، أم في التخطيط ودراسة الجدوى؟ وهل تتعارض قيمة إنجاز أي مشروع مع الالتزام بجدول زمني لا يحمّل ميزانية الدولة فوق طاقتها؟

(4)

«اللّي بنى في قلوبنا حيّ»

هل ينسى المحتفلون بـ«السرعة» أن السد العالي، مشروعنا القومي الأكبر، تم تنفيذه خلال جدول زمني زاد على 10 سنوات؟ فهل قلل ذلك من قيمة المشروع؟

على العكس تماما، أصبح رمزا لقدرتنا على التحدي والإنجاز، خصوصا وقد استمر العمل فيه رغم ما تعرضت له مصر خلال هذه السنوات العشر من صدمات الانفصال عن سوريا والتورط في حرب اليمن وهزيمة يونيو وتحديات حرب الاستنزاف وسيادة شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». إذن، استمرار المشروع 10 سنوات لم يفقده رونقه، لأنه كان مشروع «بحق وحقيقي»..«مش كده وكده»!

بدأت دراسة المشروع في 18 أكتوبر 1952 وافتتح رسميا في 15 يناير 1971.. أي بعد نحو 19 عاما من ميلاد الفكرة! فإذا كان مرجع السرعة في مشروع قناة السويس الجديدة إلى الرغبة في الاحتفال بإنجاز سريع ينسب للرئيس في مواجهة خصومه، أو رفع الروح المعنوية للمصريين (!) فهل كان يمنع ذلك أن يأخذ المشروع مساره الطبيعي بعد أن يطلق الرئيس شارة بدء العمل؟

ولنا في السد العالي أيضا العبرة.. فقد تم افتتاح المشروع بعد رحيل الرئيس عبدالناصر بثلاثة أشهر، وافتتحه السادات، فلمن ينسب الناس والتاريخ هذا المشروع حتى الآن؟ بقي السد العالي وسيبقى هو «النصب التذكاري» – إن جاز التعبير- لعبدالناصر وزمن عبدالناصر.

لم تنساه مصر عند فرحتها بتمام الإنجاز، وتغنت شادية بأجمل أغنيات حفل افتتاح السد العالي، مشيرة إلى الرئيس عبدالناصر بكلمات الشاعر محمد حمزة (متقولوش الشمعة دابت، متقولوش دا غاب الضيّ/ مهما يغيب اللّي بنى، مهما يغيب في قلوبنا حيّ/ عايش.. زي الأمل في قلوبنا لكل بُكرا جايّ).

(5)

«من أموالنا بـإيد عمالنا»

من الزاوية المعلوماتية، يتكرر حاليا بعض ما شهده إطلاق مشروع السد العالي نفسه، فإعلام (الحشد الاحتفالي) يرفض تقييم تجربة قناة السويس الجديدة موضوعيا بالحديث عن جدوى سرعة التنفيذ في غير موضعها، وقدرة الشركات المحلية على الإنجاز وفق جداول تتفق مع إمكانياتها، وأهمية دراسة جدوى المشروعات قبل التورط فيها، وبحث التمويل مقابل الأعباء التي يفرضها من فوائد مستحقة وديون. وطالما نرفض التقييم فسيتكرر الأمر برمته في مشروعات أخرى، بسلبياته بإيجابياته بـ«بابا غنوجه»!

قبل 60 سنة، جرى التعتيم نسبيا على معلومات بسيطة قد لا تسيء أصلا للإنجاز.. فصاحب فكرة إنشاء السد العالي مهندس مصري (من أصل يوناني). وشارك في دراسة جدوى المشروع سلاح المهندسين بالجيش المصري، لكن تصميم المشروع نفذته شركتان هندسيتان (من ألمانيا)، وراجعت التصميم وأقرّته لجنة (دولية). وحين بحثت مصر أمر التمويل، لجأت – أول ما لجأت- إلى البنك (الدولي)، وبعد الرفض، لجأت إلى (الاتحاد السوفيتي)، الذي (أقرض مصر) 400 مليون روبل لتنفيذ المرحلة الأولى من المشروع، إضافة إلى (قرض آخر) بقيمة 500 مليون روبل للمرحلة الثانية.

ورغم كل ما تقدم، كان الجميع يهتف وراء عبدالحليم حافظ بكل ثقة: (من أموالنا بإيد عمالنا.. وآدي احنا بنينا). لم يكذب الشاعر أحمد شفيق كامل في أغنيته التي تحولت إلى هتاف نعشقه حتى اليوم، فقد سددت مصر قروضها من أقوات المصريين. وعلى أكتاف المصريين أنفسهم ارتفع السد العالي لأكثر من 111 مترا بين ضفتي النيل.. إذن فهو بالفعل من أموالنا بإيد عمالنا (إلا قليلا). فهل يتعارض احتفالنا بأي إنجاز مع السماح بنشر المعلومات والحقائق كاملة، على الأقل لقطع الطريق على من يرددون أكاذيبهم ويقللون من أي إنجاز في أي مجال فيما بعد؟

(6)

«التدليس والتدليس الآخر»

هل يتعارض الشعور بالفخر مع تقييم أي تجربة، وطرح معطياتها ونتائجها بكل شجاعة؟ أم سيبقى الحال دائما صراع بين (التدليس والتدليس الآخر)، وتلاحقنا جميعا لعنة خلط الأوراق، وانتقاء بعض المعلومات وإخفاء الآخر لصالح إثبات وجهة نظر معينة.. وهي جريمة يتورط فيها المؤيد والمعارض لأي مشروع أو قرار في بلدنا! ويبقى الاختلاف فقط في نوعية ما ينتقيه وما يخفيه كل طرف.

لكن عزاؤنا أن نتمسك بالحلم والأمل.. أن تظهر في يوم ما 40 كرتونة أخرى بها أكثر من 2000 «سي دي» تتضمن وثائق ومعلومات وأرقام (مجرّدة)، غير تلك التي يلوّنها الهوى السياسي بألوان الطيف السبعة، ونغرق في (مياهها المالحة) حاليا.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية