تتعامل الدولة مع «المصريين في الخارج» عند كل «أزمة دولارية» بمنطق سائق الميكروباص. فهذا الأخير لا يرى «زبونه» في الشارع على هيئة بشر، وإنما يراه في صورة (جنيه مرمي على الأرض) ولابد أن يأخذه قبل غيره من السائقين. وهو في سبيل ذلك يرتكب كل «حركات الفهلوة» المشروعة وغير المشروعة مروريا، بما في ذلك تجاوز المسار المحدد والوقوف العشوائي المفاجئ.
لا يهتم (السائق)بحق هذا «الزبون/ المواطن» في أن يوفر له مقعدا قبل «حشره» في الميكروباص، فقط.. يريده أن يركب معه على أي وضع، وإن أبدى الزبون استياءً سبّه السائق بدعوى أنه «بيتدلّع»، رغم أنه يركب الميكروباص بمقابل، لا «شفقة وإحسان» على حساب السائق الكريم.
«المصريون في الخارج» في نظر الدولة – لا الحكومة فقط– مجرد دولارات «مجانية» تستر عورتها أمام المواطنين والمؤسسات الدولية للتقييم الاقتصادي. لا تتذكر أبنائها في الخارج إلا عند كل أزمةفي الداخل، أما فيما يتعلق بأزماتهم في الغربة، ترفع الدولة شعار «الطيب أحسن». ولا مانع في تعيين وزيرة «شيك» لشؤون الهجرة في الحكومة لسد الخانة لا أكثر، وليتها سدّتها.
وفي كل أزمة، تطلق الدولة «أدواتها» عبر وسائل الإعلام للترويج لمبادرات «تبدو تطوعية» لإنقاذ الاحتياطي النقدي. ويسارع هؤلاء إلى دعوة المصريين في الخارج إلى زيادة التحويلات وكأنهم «يغرفون من بحر»، وإن فعلوا ونقلوا ودائعهم الدولارية إلى بنوك مصرية، يفاجؤون بأنهم محرومون من حقهم في سحب أموالهم لدى البنوك نفسها فيما بعد، «عليك واحد»!
(2)
(وبعتنا مع الطير المسافر.. جواب وعتاب).. تُغنّي نجاة.
ويزايد إعلام الدولة، ومعه قطاع عريض منالمواطنين، على مواطنين آخرين يخسرون أعمارهم يوميا في بلاد الله بعيدا عن الأهل والأحباب: (هتبيعوا مصر يعني؟ هتاكلوها والعة لوحدكم؟! على قلبكم أد كده! ردّوا الجمايل! زيّكم زي الخونة والعملاء اللّي بيقبضوا بالدولار!).
هي نفسها الدولة، وهم أنفسهم المواطنين، الذين يعرفون أن تحويلات المصريين في الخارج سنويا تزيد على نحو 3 أضعاف دخل قناة السويس من العملة الصعبة، وأن تحويلاتهم تأتي في المركز الأول بين دول الشرق الأوسط والوطن العربي، والسادس على مستوى العالم، بحسب تقرير «حقائق الهجرة والتحويلات» الذي تعده مبادرة (شراكة المعارف للهجرة والتنمية)التابعة لمجموعة البنك الدولي.. ورغم ذلك يستفزون مواطنين آخرين شاءت أقدارهم أن يحرموا من نعمة الوطن بحثا عن فرصة عمل كريمة بلا ابتزاز أو تهديد.
المصري في الخارج في نظر الدولة كحال شقيقه في الداخل، وربما أقل درجة، تعذبه الدولة في كل خطوة تتعلق بسفره أو عودته. عذاب في استخراج جواز السفر وتخليص إجراءات التجنيد من محل الميلاد، عذاب في مكتب العمل، عذاب مع السفارات المصرية، عذاب في تخليص إجراءات سفر أسرته، عذاب لو فكّر في شراء هدايا لعائلته على بوابات الجمارك، عذاب عند تغيير العملة. وكأن الدولة تعاقبه على «فشلها هي» واضطراره وغيره للسفر إلى الخارج.
ثم تُروّج (الأدوات الإعلامية) لشائعات غرضها جس النبض – وربما التهديد والابتزاز – مفادها أن الدولة تدرس مقترحاتبفرض ضريبة على المصريين في الخارج وإجبارهم على تحويل ما يتبقى من رواتبهم بالسعر الذي يريده رجال أعمالها، ثم يطلقون «كتائب المزايدين» على مواقع التواصل الاجتماعي: (لو مبعتوش لنا شقا عمركم ومستقبل أطفالكم برخص التراب تبقوا مش مواطنين شرفاء ولا بتحبوامصر)!
(3)
(وابعتوا لنا.. كلام يمكن يفرّحنا ولاّ يريحنا).
وعندما يطالب الناس بالحلول العملية والعادلة، حتى وإن لم تكن عاجلة، يخرج علينا «عباقرة» بمقترحات تزايد على «عبقرية الدولة» نفسها، ومن ذلك مثلا اقتراح نائبة برلمانية بمشروع قانون يمنع المصريين في الخارج من دخول مطارات بلادهم إلا بعد دفع 200 دولار أو تغيير أمواله بسعر غير عادل! وهذه العقليات وغيرها دليل على أن المعاملة البائسة فقيرة الخيال ليست قاصرة على الحكومة فقط، وإنما تكاد تكون عقيدة مؤسسات الدولة، بل والمواطنين ونوابهم في مجلس الشعب.
أو يكون البديل مجرد حلول «دعائية» منفصلة عن الواقع تماما، حيث تستجيب بعض وسائل الإعلام لـ«التعليمات» وتحاول إقناع الناس بأن الجنيه صامد وأن الدولار يتراجع بفضل «توجيهات السيد الرئيس»، على غير الحقيقة التي يدركها كل من يتعامل بالبيع والشراء في السوق. فضلا عن «مُسكّن» آخر بالسعي رسميا للتورط في سلسلة جديدة من قروض صندوق النقد الدولي (و يا مين يعيش لوقت السداد).
ومؤخرا أطلقت الحكومة مبادرات لتشجيع المصريين في الخارج على شراء وحدات سكنية وقطع أراضي وصفتها بأنها مميزة، بشرط السداد بالدولار، وهي مبادرات عملية جدا نادى بها كثير من المصريين في الخارج، لكنهم لم يتوقعوا أن يصل سعر المتر إلى 800 دولار بحسب تصريحات وزير الإسكان، وهو ما يعني أن مساحة 100 متر فقط تساوي حاليا نحو مليون جنيه.
فهل يعتقد وزير الإسكان أن كل مصري مغترب هو مشروع مليونير! وهل يسأل الوزير زملاءه في وزارتي القوى العاملة والهجرة عن مستوى دخول المصريين بالخارج بمختلف فئاتهم المهنية؟ أم يعتبر التقارير الصادرة عن دائرة الأراضي والأملاك في دبي مؤخرا (710 مصريين اشتروا عقارات بأكثر من مليار و400 مليون درهم في دبي خلال 6 أشهر) معبرة عن أوضاع جموع المصريين في الخارج؟
(4)
(حبايبنا،عاملين إيه، في الغربة وأخباركم إيه؟ مرتاحين ولّا تعبانين؟).
لا يحتاج الأمر إلى لجان تقييم ورصد ووزارة للهجرة، فقط اسألوا أعضاء «الكتائب الإلكترونية» عن تفاصيل منشورات وتعليقات أعضاء «جروبات» التواصل الاجتماعي التي تجمع الجاليات المصرية في الخارج، لتعرفوا حقيقة أوضاعهم المعيشية ومستوى دخولهم في ظل انهيار أسعار البترول والأزمات الاقتصادية التي تضرب الكثير من دول العالم.
الكثيرون منهم لا يتقاضون رواتبهم كاملة منذ شهور، وآخرون حركوا دعاوى قضائية ضد مؤسساتهم للحصول على رواتبهم قبل النزول إلى مصر، إحباطا أو اضطرارا. اهتموا على الأقل بمقترحاتهم العادلة والمنطقية التي بناء عليها يبدون استعدادا لرهن ما يملكون بشرط الحصول على ضمانات، وهو أبسط حقوق أي مواطن يسلّف جاره، ولو ألف جنيه!
أمّا اعتقاد الحكومة بأنها ستبيع لنسبة كبيرة من المغتربين قطعة أرض أو وحدة سكنية بمليون جنيه، وغيرها من المبادرات التي تحمل من الشعارات والمزايدات أكثر مما تحمله من جدية اقتصادية، فتتحول يوميا إلى «نكت سخيفة» على صفحات التواصل الاجتماعي التي تجمع المغتربين افتراضيا.
الحكومة ليست جادة حتى في السؤال عن حقيقة مخاوف ومبرراتمواطنيها في الخارج من تحويل أموالهم ليخسروا نحو 30% من قيمتها بسبب ارتباك سعر الصرف، الذي تحكمه قواعد السوق، لا توجيهات الرئيس أو تهديدات الشرطة بالملاحقة.. لأن الأمر يتوقف بالأساس على قدرة الحكومة على توفير مصادر بديلة للعملة الصعبة، وليس فقط على مانشيتات صحفية تقول إن الدولار وصل سعره إلى ربع جنيه مثلا! لأن الرد البديهي سيكون: (نعم نصدقكم، نصدّق أن الدولار «فجأة» بات متوفرا جدا وبربع جنيه كمان، لكن أين هو؟ نريد أن نشتريه بهذا السعر المغري).. فهل نشتريه من البنوك وشركات الصرافة؟ أم نشتريه من صحف الدولة التي تعلن ذلك السعر «الأمني»؟
كما أن المواطن الذي يزايد على مواطن آخر بقوله: (وإيه يعني لما تضحّي بفارق سعر الصرف عشان مصر)، هو نفسه المواطن الذي لم يُخرِج أكثر من 60 مليار جنيه من تحت البلاطة (عشان مصر) إلا بعد أن وعدته (مصر) بفائدة 15% في شهادات استثمار قناة السويس الجديدة!
(5)
(وابعتوا لنا مع الطيراللّي راجع قوام.. سلام).
أليس من حق (مَن ضَيّع في المطارات عمره) أن يتحسس هو الآخر موضع قدمه قبل أن يمنح «شقا عمره» ويرهن مستقبل أطفاله ماديا بيد كبار المسؤولين من الهواة والمرتبكين؟ أم تلاحقه – كالعادة- التهم المعلبة الجاهزة: (مادي. أناني. إخواني. ماسوني. طابور خامس. متآمر وأهبل!).
كونوا واقعيين وعادلين حتى عندممارسة الضغط النفسي على شركاء الوطن بالخارج، فهم لا يقلّون عنكم حبا للبلد وأهل البلد، بشرط ألا يكون هذا الحب من طرف واحد، وألا يكون ذلك على حساب حبهم الغريزي لأطفالهم وخوفهم على مستقبلهم. اطرحوا مبادرات عادلة، وسّعوا دائرة الخيال، احترموا الضمانات وازرعوا الثقة لا «الـمُسكّنات»، افتحوا الباب لأصحاب الخطط العملية العاجلة والآجلة وتخلّصوا من عقيدة «أهل الثقة» المزعومة... (يمكن يفتكر «اللّي حاكِم»إن بره بلاده أحباب).