في خطاب الاحتفال بالعيد الرابع عشر لثورة يوليو بميدان الجمهورية، 22 يوليو 1966، تساءل الرئيس عبدالناصر- في براءة يُحسد عليها– عن سر نجاحنا في إدارة قناة السويس رغم الانسحاب المفاجئ للمرشدين الأجانب، بينما نفشل في إدارة مستشفى قصر العيني كمثال؟
كان لسؤال عبدالناصر أكثر من إجابة موضوعية، لكن للأسف كان مصير واحد ممن أجابوا على سؤال الرئيس فرض الحراسة على أمواله وفصله من الاتحاد الاشتراكي وطرده من وظيفته كأستاذ بجامعة الإسكندرية، وهو الدكتور رشوان فهمي، نقيب الأطباء في ذلك الوقت، لكنه ليس موضوعنا.. المهم أننا مازلنا نشارك الرئيس تساؤله البريء: كيف نجحنا في إحراج أنطوني إيدن رئيس وزراء بريطانيا أمام العالم، بعد أن قال متحديا: «إن قناة السويس ستتحول تحت الإدارة المصرية إلى حفرة تملؤها الرمال»، بينما مازلنا نفشل في إدارة مشروعات وقضايا أقل تعقيدا، ونشكل لجانا عاجلة تزيد من حدة الفشل تراكميا، بدلا من علاجه.
وعلى ضوء القرار الجمهوري رقم 300 لسنة 2016 الذي أصدره الرئيس عبدالفتاح السيسي، أول أمس، بتشكيل لجنة برئاسة المهندس إبراهيم محلب، لحصر أملاك هيئة الأوقاف المصرية من الأراضي والمباني والمشروعات والمساهمات في شركات.. نطرح سؤالا بريئا آخر عن مدى جدية الدولة في (دراسة إمكانية استغلال مقومات الهيئة في دعم الاقتصاد القومي) بحسب الغرض المعلن للقرار الجمهوري، وهل ستتبع الدولة حاليا ما اتبعته «دولة يوليو» أم «دولة مايو» في التعامل مع أموال الأوقاف، التي تصفها الأدبيات الإسلامية بأنها «أموال الله»؟
أما «دولة عبدالناصر»، مجازا، فقد بررت قرارها بإلغاء نظام الأوقاف الأهلية الخيرية بدعم هدف قومي آخر وهو إنجاح قانون الإصلاح الزراعي، الصادر بعد الثورة بأقل من 6 أسابيع، حيث اكتشفت الدولة أن ما يقرب من 500 ألف فدان من الأراضي الزراعية موقوفة وقفا أهليا ومشتركا لأعمال الخير، وهو ما يهدد بفشل تطبيق القانون «الثوري» على نطاق واسع.. لذلك تجاهلت الدولة على سبيل المثال أن 76 ألف فدان من إجمالي 130 ألف فدان من الأراضي التي كان يديرها (ديوان الأوقاف الملكية) كانت أوقافا خيرية– بحكم القانون- لصالح المنافع العامة، ورغم ذلك عاملتها الدولة معاملة أراضي الإقطاع فقررت مصادرتها وتوزيعها!
وبحسب رسالة دكتوراه قدمها الدكتور إبراهيم البيومي غانم قبل 19 عاما إلى قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد جامعة القاهرة، فإن نصف مساحة أراضي الإصلاح الزراعي التي وزعتها «دولة يوليو» عند تطبيق القانون كانت من أراضي الأوقاف، كما أن 28% من إجمالي أراضي الإصلاح التي تم تمليكها أو تأجيرها أو احتفظ بها هيئة الإصلاح الزراعي كانت في الأصل أراضي زراعية موقوفة على البر العام والخاص، وهو ما تكرر في تعديلات القوانين لأكثر من مرة في الخمسينيات والستينيات، حتى لخص المستشار طارق البشري – النائب الأول لرئيس مجلس الدولة سابقا –الأمر في أنه بمثابة (تأميم لموارد الأوقاف الخيرية، وسعيا لإعادة توظيفها في خدمة السياسة العامة للدولة في إطار التوجه الاشتراكي للسلطة الحاكمة).
وهو ما تثبته الإحصاءات المعلنة في المنشورات الرسمية لوزارة الأوقاف، التي تنشرها تفاخرا بأنها خصصت أموال الأوقاف مثلا (لدعم سياسة التصنيع والإنتاج التي تبنتها الدولة، والمساهمة في شركات الألبان ومصانع الثلج وتجفيف البصل)، حتى أن الدولة- بموجب قرار جمهوري رقم 439 لسنة 1958– خصصت ريع الأوقاف الخيرية التي أوقفها أصحابها لخدمة الحرمين الشريفين بمكة والمدينة المنورة لإنشاء المشروعات السكنية في مصر بدلا من توجيهها للحرمين الشريفين، في ظل الظروف السياسية المتوترة بين عبدالناصر وملك السعودية في ذلك الوقت.. وربما لم يذهب خيال الوجدان الشعبي الذي صاغ المثل الموروث «ناس تأكل مال النبي» على سبيل المبالغة، إلى أبعد من ذلك على أرض الواقع!
وهو ما يعني أن الدولة بذلك قررت أن تتولى هي توجيه الأموال الخيرية إلى حيث تريد، لا إلى حيث أراد أصحاب الأموال الأصليين، الذين قرروا تخصيصها لمصارف خيرية محددة، (مثلها في ذلك كمثل الوصية شرعا) خصوصا أن هؤلاء الخيّرين الراحلين فضّلوا هذه المصارف الخيرية بعينها على أن يتركوا كل ثرواتهم للورثة من أبنائهم وغيرهم.
على كل حال، لم تقتصر هذه السياسة على «الأوقاف» باعتبارها إحدى صور مؤسسات المجتمع المدني الحالية، حيث يقول المستشار البشري في تقديمه لرسالة الدكتور غانم إن (الدولة عملت على تصفية مؤسسات المجتمع التقليدية، ليس لإحلال المؤسسات الأهلية الشعبية الجديدة محلها، وإنما لإحلال السيطرة المركزية للدولة محلها، من خلال إنشاء واجهات مؤسسات حديثة تعمل تحت الهيمنة السيادية لجهاز الدولة القابض... بما في ذلك الجمعيات والتعاونيات والنقابات وغيرها. وقد أثر ذلك في اختلال نسق العلاقات المتبادلة بين المؤسسات، حتى ظهر التنافر بينها، لتتدخل السيطرة المركزية من جديد وتقوم بوظائف ناءت الدولة بثقلها وتعددها).
أما «دولة السادات»، فخضعت أخيرا لمطالب أعضاء مجلس الأمة المنتخبين في ظل الكشف عن فضائح مالية تتعلق بإدارة أموال الأوقاف، وقررت بعد أقل من 5 أشهر مما عرف بـ«ثورة التصحيح» في «مايو» 1971، إنشاء هيئة الأوقاف المصرية لتكون بمثابة أول هيئة استثمارية كبرى خارج هيمنة القطاع العام والاقتصاد الموجه تتخصص في إدارة أموال وزارة الأوقاف واستثمارها وتعظيم مواردها (مع رعاية شروط أصحاب الوقف الأصليين) بحسب المذكرة الإيضاحية للقانون 80 لسنة 1971 بإنشاء الهيئة.
كما أصدرت الدولة – في إطار هذه الموجة التصحيحية– قانونا باسترداد جميع الأراضي والعقارات التي كانت موقوفة لأعمال الخير والتي سبق وانتقلت تبعيتها لهيئة الإصلاح الزراعي والمجالس المحلية وغيرها، وأجبر القانون وزارات (الداخلية والحربية والتعليم والصحة) على رد أكثر من 80 مليون جنيه – أيام كان الجنيه جنيها- للأوقاف حتى سنة 1983. وشكلت هيئة الأوقاف لجانا متخصصة لرد الأراضي والعقارات المغصوبة، وأعلنت في سبيل ذلك عن مكافآت تشجيعية تصل إلى 5% من قيمة الأراضي لمن يرشد عنها.
والآن، وبعد 45 سنة من هذه الحركة التصحيحية بإنشاء هيئة الأوقاف بهدف رد أموال الأوقاف إلى مصارفها الطبيعية، هل نجحنا في تحقيق الهدف؟ وكأني أسمع الرئيس عبدالناصر يجيب على سؤالنا بسؤاله البريء المشار إليه سابقا.. كيف نفشل؟ المهم أننا فشلنا بدليل استمرار خضوع أموال الأوقاف بشكل أو بآخر لإرادة الدولة، لا لإرادة من أوقفوا الأموال في الأصل. فهل سيكون مصير القرار الجمهوري الذي أصدره الرئيس السيسي كسابقيه؟ أم سيكون أداة لتأكيد تمكين الدولة من أراضي وعقارات الأوقاف المغصوبة بدعوى «المشاركة في دعم الاقتصاد القومي» من جديد؟ وهل ننجح هذه المرة في إدارة «مال الله» بنجاح، أم أن النجاح في زماننا حليف من يديرون صناديق الاستثمار بمختلف البنوك الخاصة فقط؟
هذه مادة تصلح لإجراء تحقيقات استقصائية متعددة بشأنها، من خلال رصد أوجه الاستثمارات التي ضخت- أو أهدرت- فيها هيئة الأوقاف أموال «الناس الطيبين» الذين أفرطوا في حسن النوايا- على مدى قرون- عند ائتمان غيرهم على توظيف ثرواتهم في كل سبل الخير، أو التحقيق صحفيا في مصير نماذج من الأراضي والمباني والمستشفيات والمدارس التي منحتها «الأوقاف» لمختلف مؤسسات الدولة – بالأمر المباشر- بداية من المجالس المحلية وصولا إلى الوزارات السيادية، وكيف آل الأمر بها لأن تكون أراضي مباني بالملايين خاضعة لواضعي اليد، أو مستشفيات شبه استثمارية لا تدخلها إلا فئات ليست في حاجة إلى أموال أوقفها أصحابها في الأصل لخدمة الفقراء، وما أكثرهم.