فى خلال فترة وجيزة نال شارع «عماد الدين» شهرة عالمية واسعة لا تقل عن شهرة أى حى من أحياء الملاهى والمسارح الكبرى فى العالم كـ«برودواى» فى أمريكا، و«بيكاديللى» فى لندن، و«بيجال» فى باريس. فقد أتى عليه وقت كان فيه أكثر من ثلاثين مسرحاً ومرقصاً ومقهى وداراً للسينما الصامتة. وقد أورد «أحمد شفيق باشا» فى كتابه «مذكراتى فى نصف قرن» تاريخ افتتاح أول دار للسينما فى مصر، فقال: إنه افتتحت لأول مرة فى مصر دار للسينما فى «حمام شنيدر»، بالقرب من فندق شبرد، فى مساء 28 يناير عام 1895. (ومقر السينما كان فى الشارع الذى أصبح فيما بعد الشارع الشهير).. وعرضت فى تلك الليلة بعض مناظر لا بأس بها أطلق عليها اسم «الفوتوغراف المتحرك»، من اختراع المسيو لوميير من ليون، وقد تهافت على مشاهدتها جمهور كبير ليرى ذلك الاختراع العجيب، بالرغم من أن أسعار الدخول كانت «باهظة» الثمن، فقد كانت تتراوح بين خمسة قروش للكبار وقرشين للأطفال!. وقد شهدت هذه الدار تقلبات غريبة، فقد تحولت أكثر من مرة من دار للسينما إلى مسرح تارة، وإلى «كباريه» تارة أخرى، وعملت فيها أشهر الفرق الاستعراضية والمسرحية من شرقية وغربية، وكانت فى كل مرة توصد أبوابها ثم تعود إلى ما كانت عليه كدار للسينما. وقد تغير اسمها عدة مرات، فكانت مرة دار «الفوتوغراف المتحرك»، ومرة «سينما الشعب»، ومرة مسرح «ريجال» وأخيراً سينما «أوديون». ومن الطريف أنه حينما كان اسمها سينما «الشعب» كان العامة يسمونها سينما «الشعب» بكسر الشين، وكانت أجرة دخولها قرشاً واحداً وتذكرة ترام.. ولا يستطيع أحد إلى الآن أن يفهم ما هى فائدة هذه التذكرة، وهل كانت السينما تروج لشركة الترام أو العكس؟
الشىء الوحيد الذى افتقده الشارع، وكان من الواجب تواجده، هو المكتبات التى تعرف بالأدب والفن وفرسان النهضة والتنوير، ورجال التأليف قديما وحديثا، هذا الأمر يبدو أنه لم يكن مخططا له عند ملاك عقارات شارع عماد الدين، إذ اكتفى الجميع بمحور تواجد المكتبات بمنطقة باب الخلق، ودار الكتب المصرية، وما أحيط بها من مطبوعات وليدة، تتجه تدريجيا إلى المراكز الدينية والثقافية بالجمالية.
بعدما اشتهر شارع عماد الدين بما يقدمه من هزليات وصلت إلى قلوب الناس وأقبلوا عليها لأنها بالعامية، اضطر بعض المؤلفين وأهل الرزانة والحفاظ على اللغة العربية إلى التنازل والرضا بتقديم العروض، نصفها بالعربية، ونصفها بالعامية، أو تصديف المواقف بالعامية لجلب الضحك، وكانوا أحيانا يضيفون إلى مسرحياتهم نكاتاً شامية، وألفاظاً عجمية وتركية من أجل إضحاك الجمهور متعدد الهويات. وتجدد الصراع بين أنصار الفصحى والعامية وظل محتدما لفترة طويلة. وتأثر به أمير الشعراء أحمد شوقى، أول الرواد الذين كتبوا للمسرح العربى روائع من المسرح الشعرى، تأسياً بشعراء أوروبا الفطاحل (شكسبير- راسين- درايدن). والذى يذكره التاريخ أن أكثر من فرقة أو جوقة رغبت فى تقديم إحدى مسرحياته (مجنون ليلى- مناقيل- مصرع كليوباترا- أميرة الأندلس- على بك الكبير)، وأن الجميع كانت لديهم الرغبة إلى حد بدء البروفات وتلحين الأغانى وإعداد الملابس، ثم يكون موقف الفرق هو الرضوخ لنصح الناصحين من كتاب الصحف. منهم من يقتنع بقلة باعه المسرحى، وقلة حظه من الخيال الدرامى، ومنهم من يخشى عرضها فى شارع العامية «عماد الدين»، ويطالب بعرضها فى مركز اللغة العربية- يقصدون دار الأوبرا ومسرح الأزبكية- فقرر أمير الشعراء قطع الطريق المسدود، وكتب مسرحية «الست هدى» بالعامية، وعُرضت بشارع عماد الدين، الذى صنع أسطورة «كشكش بيه». وكانت أقرب إلى الذيوع فى شارع عماد الدين عن عرضها فيما بعد بمسرح الأزبكية بنجمها فؤاد شفيق فى دور الست هدى.