يخطئ من يربط بين التقدم وعدد الجامعات.. لأن مصر كانت دولة متقدمة ولم يكن فيها إلا جامعة واحدة غير «الأزهر» هى جامعة فؤاد «القاهرة الآن»، وكانت واحدة من أفضل جامعات العالم.
الآن مصر فيها 20 جامعة حكومية بها مليونا طالب.. و23 جامعة خاصة بها 60 ألف طالب، وبها - بالطبع - جامعات أمريكية، وبريطانية، وألمانية، وكندية.. مع جامعات خاصة استثمارية، أى تستهدف الربح المادى وإنه لا يمكن أن نهمل الهدف التعليمى، فى بعضها.. فهل مصر الآن - وبها كل هذا العدد من الجامعات - تعتبر دولة متقدمة؟! الجواب لكم.. والدليل أن جامعات مصر يتم تصنيفها بعد العديد من الجامعات، التى نشأت بعدها مثل إسرائيل.. وبعض الدول الشقيقة.. بل الأفريقية.. حتى وإن قالوا إن مصر الآن - وطبقاً للتصنيف الإنجليزى للعام الحالى - تعتبر فى المرتبة رقم 47 ضمن أفضل 50 دولة على مستوى العالم.
حقيقة عندما كانت عندنا جامعة مدنية واحدة كان عدد سكاننا أقل من 20 مليوناً.. وعندما زاد العدد أنشأنا جامعة فاروق «الإسكندرية»، ثم جامعة إبراهيم «عين شمس»، بل قررنا إنشاء جامعة فى الصعيد هى محمد على «أسيوط» وهكذا.. ولكن تفاخر الدول ليس بعدد جامعاتها.. بل بمستوى التعليم فيها.. وهذا هو الأهم، بدليل أن مصر وبعد أكثر من قرن كامل من بدء التعليم الجامعى فيها انهار مستوى التعليم ولم يتقدم.. رغم كل الجامعات الموجودة الآن، فى كل محافظة، تقريباً، بل صار إنشاء جامعة - فى كل محافظة - مطلباً شعبياً، فى مقدمة مطالب أهلها.
نقول ذلك، رغم أن الولايات المتحدة مثلاً فيها المئات من الجامعات، رغم أن عدد سكانها ثلاثة أمثال عدد سكان مصر تقريباً.. ولكننا لا نتذكر منها إلا عدداً محدوداً من الجامعات الأكثر شهرة وتأثيراً.. بسبب واحد وأساسى هو دورها فى البحث العلمى، وإن كنا نرى أن «المجتمع» نفسه هو الذى ينفق على المراكز البحثية فى معظم هذه الجامعات، من خلال الشركات والمصانع التى تتلقف خريجيها ليعملوا بها.. أى أن المجتمع يعطى.. ليأخذ، وهذا هو المهم.
وبجانب هذه الجامعات - ربما فى كل ولاية جامعة - هناك المئات من المدارس العليا.. وهى - علمياً - لا يقل دورها عن دور الجامعات.. بل إننا نجد أن منها ما يحمل اسم «المدرسة العليا» وهى أكثر علمية من أى جامعة أو كلية، وهذا نفسه هو الموجود أيضاً فى بريطانيا وفرنسا وألمانيا.. حتى إن واحداً من أشهر شوارع باريس، موازياً لشارع سان جيرمان، اسمه شارع المدارس، وهو يتقاطع مع شارع سان ميشيل الشهير.. ويطل مبنى الساكركير عليه!! ولكننا مغرمون بالأسماء الكبيرة.. اللامعة.. ونسينا أن التعليم الجامعى فى مصر بدأ بعدد من المدارس العليا، منها مدرسة المهندسخانة.. التى أصبحت كلية للهندسة.. ومدرسة الحقوق.. ومدرسة التجارة العليا.. وأيضاً مدرسة الزراعة.. وهى التى تحولت إلى كليات للحقوق والتجارة والزراعة حتى مدرسة المعلمين العليا.. وهكذا.. بل مدرسة الطب.. والطب البيطرى!!
ولكن عظمة كل هذه الكليات «المدارس سابقاً» لم تكن فى المسميات، بل كانت فى المناهج والمعامل والأساتذة.. وكان كل ذلك لا يقل عن الموجود فى أفضل الكليات والجامعات الأوروبية.. وأحياناً كنا نسبق الجامعات الأمريكية، أى والله العظيم!!
وبدأت كارثة تدهور التعليم فى مصر عندما تعددت الجامعات وكثرت الكليات عدداً ولم تتطور علماً ومناهج وأساتذة.. وبالطبع فاقد الشىء لا يعطيه!! ولم تكن المشكلة فى الاهتمام بزيادة عدد الجامعات، على حساب نوعية التعليم الذى تقدمه، فقط.. بل امتدت إلى ظاهرة المعاهد العليا.. وجاءت هذه لتلبى «نعرة» عشق المصريين «للشهادات» حتى صار تعبير «بلد شهادات» أمراً شائعاً فى حياة كل المصريين.. لأن من لم «يلحق» بدخول الجامعة كان حلمه أن يلتحق بأى معهد.. والسلام.. ولسان حاله يقول: أهى شهادة والسلام.. حتى صار بين كل معهد ومعهد.. معهد ثالث.. وربما معهدان.
■ ■ ذلك لأن النظام التعليمى عندنا قام فى الأساس لتخريج الموظفين.. لأننا بلد موظفين، ولا أفضل من تراب الميرى.. فهى وظيفة مضمونة الراتب.. مضمونة بعد الستين!! وجاء قرار عبدالناصر فى أول الستينيات ليؤكد ذلك من خلال التزام الدولة بتعيين «كل الخريجين»، حتى ولو لم تتواجد الوظائف التى تستوعبهم.. وهكذا عرفنا حكاية «خطاب القوى العاملة» وحتى ولو كان هذا القرار هدفه اجتماعى فى المقام الأول.. إلا أنه «عوَّد» المصريين على الاعتماد على الدولة فى التشغيل.. وفى الوظيفة الميرى.
■ ■ وجاء التوسع فى نظام الانتساب ليؤكد أنه لا حياة لغير خريجى الجامعة.. وليؤكد أكثر ضياع مبدأ تكافؤ الفرص، وأصبح الحصول على الليسانس أو البكالوريوس هو حلم كل أسرة.. وليس حلم كل شاب فقط.. وبنظام الانتساب يتساوى الطالب المنتظم مع المنتسب.. وكله خريج جامعة.
■ ■ إلى أن وصلنا إلى كارثة نظام التعليم المفتوح لنقضى على ما بقى من أى أمل لعلاج نظام التعليم.. وتساوى حملة الدبلومات مع غيرهم، وأخذ كل هؤلاء يطالبون بحق التعيين.. أو تصحيح وضعهم الوظيفى، طبقاً للحصول على الشهادة الجامعية.. ولو من خلال.. هذا التعليم المفتوح الذى هو آفة الآفات.