مدارسنا- زمان- كانت تبنى الجسد.. وتربى العقول.. وتهذب النفوس.. كانت مهمتها متعددة الجوانب.. وعندما أقول «زمان» لا أقصد 100 عام.. بل تجربتى الشخصية فى مدرسة دمياط الابتدائية «1947ــ 1950» ثم مدرسة دمياط الثانوية «1950ــ 1956» وكانتا مدرستين حكوميتين أميريتين، وكانت الدولة تتولى توفير كل شىء.. لتحقق هذه الأهداف الثلاثة: الجسد والعقل والنفس.. ومجاناً. وبالمناسبة كان عدد تلاميذ السنة الرابعة الابتدائية عندما كنت بالسنة الرابعة: هو 125 تلميذاً يدرسون فى أربعة فصول، أى متوسط عدد طلبة الفصل الواحد يدور حول 30 تلميذاً.. بينما كان عدد طلاب المدرسة هو 597 تلميذاً.. وتحت يدى الأرقام مطبوعة فى مجلة البواكير التى كنا نصدرها فى العام الدراسى 49 ــ 1950!! وكان التعليم أيامها «٤ سنوات ابتدائى» و«٥ سنوات ثانوى»..
وكان بمدرسة دمياط الابتدائية «الأميرية» يعنى الحكومية العديد من جمعيات النشاط الثقافى والرياضى والترويحى.. كان بها جمعيات: الخطابة والمناظرات، البر والإحسان «ولاحظوا الاسم»، التمثيل، تحسين الخطوط، الجمعية التاريخية الجغرافية- وكنت عضوا فيها- جمعية المكتبة، الجمعية العلمية والصحية، الفلاحة، الرسم والأشغال، الموسيقى. وكان النشاط يشمل جمعيات: الكشافة، الرحلات، القسم المخصوص.. وهذه كلها غير جمعيات: كرة القدم، السلة، البنج بونج، الفولى بول.. وكان يشرف على كل جمعية أستاذان على الأقل.. وكانت كلها ملتزمة بالنشاط الدائم..
وكان بمدرسة دمياط الثانوية «العسكرية الآن.. لا أعرف لماذا» العديد من الجمعيات نزاول فيها كل أنواع النشاط.. ومنها: الجماعة الدينية، الجماعة الأدبية، الجماعة الجغرافية، الجماعة التاريخية، وكنت عضوا بالجماعتين معاً، وكذلك الجماعة الفلسفية، والجماعة العلمية، جماعة الرسم، التصوير الشمسى، النحت والزخرفة.. أما النشاط الرياضى فكان يضم فرقاً لكرة القدم، السلة، الطائرة، السباحة، الريشة الطائرة، الكشافة، التمثيل والملاكمة، وكان الكل يشتركون فى هذا النشاط.
واليوم المدرسى- ابتدائى وثانوى- يبدأ بطابور الصباح وتحية العلم والتفتيش على النظافة: الأظافر والشعر والأحذية.. بعد الانتظام فى الطوابير لنصعد إلى الفصول، وأمامنا مدرس الحصة الأولى، وغالبا ما تكون «ألعابا رياضية» وكانت هناك فسحتان: صغيرة مدتها 25 دقيقة.. وكبيرة حوالى ساعة مخصصة لتناول طعام الغداء الساخن المطبوخ فى مطعم المدرسة: أرز ولحوم وأسماك وفراخ وعيش وفاكهة.. معدة جيداً يقبل عليها الكل بسبب جودتها، وكانوا يقومون بعملية «بياض للنحاس ولكل الأوعية» قبل بدء الدراسة بأيام.. ندخل المطعم فى طوابير، ونجلس بانتظام.. وبلا أى ضوضاء.. ثم نستكمل باقى حصص اليوم الدراسى..
وكان بالمدرسة معامل للكيمياء والطبيعة والأحياء، مزودة بغاز الاستصباح لزوم التجارب المعملية.. وهياكل بشرية للدراسة.. وبالمدرسة قاعة للسينما تعرض علينا أفلاما تعليمية وشرائح ملونة يصاحبها دروس صوتية.. وهكذا.. وكان بالمدرسة الابتدائية- وأيضاً الثانوية- قاعة فخمة للمكتبة، قرأت فيها الكثير من أمهات الفكر العربى والعالمى.. وفيها تعرفت على كل عباقرة العالم- والعرب- ولا أنسى قاعة الموسيقى والحصص الأسبوعية الدائمة على الكمان والبيانو والعود.. أما صالة الجيمانيزيوم، فكانت لا تقل عن أى «جيم» عصرى الآن.. وتظل مفتوحة طوال اليوم المدرسى.. وفيها من يعلم ويراقب.. ويوجه.. أما عن قاعات الأشغال والرسم وأحواض حصص الفلاحة فحدث ولا حرج.
■ ■ ولم نكن بحاجة إلى حصص إضافية.. أو درس خصوصى.. أو أى إعادة.. إذ كان كل مدرس يخصص الشهر الأخير فى العام الدراسى للمراجعة.. ومجاناً بلا أى أجر أو حتى «مجاميع» نخرج معاً فى رحلات داخل المحافظة، وخارجها، وعلاقات الطالب بالمدرسين كان يصعب وصفها من الألفة والحب والاحترام. ولم أشاهد يوماً مدرساً واحداً لا يرتدى البدلة الكاملة، أو يخلع الطربوش، كانت المدرسة هى عشقنا الأول والأخير.. وكنا نحزن ونحن نودع بعضنا بعضاً آخر العام.. أو نودع مدرسينا.. وأتذكر، وكنت تلميذاً بمدرسة جامع البحر الأولية، وكانت مدرسة قبل المرحلة الابتدائية، أن تم نقل أحد مدرسينا.. فخرجنا ـ فى طابور واحد طويل ـ من المدرسة إلى محطة القطار نودعه.. من حبنا له.. وكنا حول سن السنوات العشر!!
■ ■ الخلاصة أن المدرسة زمان كانت تبنى فينا كل شىء: العقول والأجساد والنفوس.. وكانت تربى فينا كل شىء. ونحصل منها على كل شىء.. غذاء الروح وغذاء الجسد.. وغذاء العقول.. ولم يكن منا من يجرؤ أن يفتح عينيه فى عينى أستاذه، احتراماً وحباً..
■ ■ ولم تكن الدولة تبخل بأى شىء.. أبدا. المبنى نفسه يعد جيداً قبل بدء العام الدراسى، وفيه كل الملاعب.. والهوايات والنشاطات. ولذلك كنا نعشق المدرسة.. ونغادرها آخر العام.. ونحن نبكى.
وأقسم بالله، مازلت أذهب إلى مدرستى هذه- فى دمياط- حتى الآن.. وهى مدرسة أقيمت فى أول الثلاثينيات.. وهى من أفضل مدارس مصر، ترى هل هناك- الآن- من يحن إلى مدرسته!!