ما أعظم شعب مصر.. ينتفض عندما يحس بالخطر.. ولا ينتظر أن تتحرك الحكومة، بل ينطلق ليحاول أن يقوم بدوره الطبيعى.. أقصد: التحرك الشعبى.. وفى تاريخ مصر مواقف عظيمة عن هذا التحرك الشعبى.
ولقد تجاوب الشعب مع كل محاولة للتحديث والبناء.. سواء أيام المؤسس الحقيقى لمصر الحديثة، محمد على باشا، وكذلك مع حفيده الخديو إسماعيل، وكلاهما حاول واجتهد.. وحقق الكثير.. وأيضا مع حفيد إسماعيل، الخديو عباس حلمى الثانى، الذى شهدت مصر فى عصره، وبعد قرن من معجزة محمد على، الكثير من الإنجازات. وحتى بعد أن نجح الإنجليز فى عزل عباس ونفيه، نجد أن الشعب ظل يتغنى بهذا الحاكم، بسبب إنجازاته، حتى إن الصبية والأطفال كان يهتفون- دون خوف- الله حى عباس جى، أى سيعود.. ونفس الشىء، شهدت مصر انتشار اسم عباس هذا.. تماماً كما كان الموقف من محاولة عبدالناصر- رغم سلبياته- عندما حاول تصنيع مصر من جديد.. وكانت البداية مع الصناعة.
فقد شارك الشعب فى محاولة إعادة البناء.. فانطلقت دعوات المشاركة الشعبية فى كل المجالات: فى التعليم بإنشاء العديد من المدارس الأهلية.. وفى العلاج بالتبرع لإنشاء العديد من المستشفيات الخيرية.. وما الدعوة إلى إنشاء الجامعة الأهلية «جامعة القاهرة الآن» إلا مجرد هذا الرمز لأهمية الدور الشعبى.
ولكننى أرى أيضاً دوراً شعبياً كبيراً فى واحد من هذه المشروعات التى سادت فى ثلاثينيات القرن الماضى، وأقصد به «مشروع القرش»، إذ كانت مصر تستورد الطرابيش من النمسا.. وكان الطربوش رمزاً للمواطن يرتديه الكل، حتى طلبة المدارس وليس الأفندية فقط والموظفون.. وقاد هذه الحملة عدد من الشباب، فى مقدمتهم أحمد حسين ومحمد صبيح وفتحى رضوان، وكانوا شباباً متحمسين لفكرة أن شعب مصر قادر بتبرعاته، ولو بقرش صاغ واحد، على أن ينشئ مصنعاً مصرياً خالصاً لتوفير هذا الطربوش، وطنيا، مصنوعاً بتبرعات المصريين وبأيدى أبنائها.. ونستغنى عن استيراده من النمسا.. وانطلق الشباب وطلبة المدارس والجامعة يجمعون تبرعات الشعب، ومن حصيلة مشروع القرش تم إنشاء أول مصنع مصرى لإنتاج الطرابيش.. وأقيم المصنع فى منطقة العباسية، التى تنسب إلى عباس الأول، الذى تولى حكم مصر بعد عمه إبراهيم باشا، بعد أن عجز الجد محمد على عن مزاولة أعباء الحكم، وليس كما يعتقد البعض أن العباسية تنسب إلى الحفيد: عباس حلمى الثانى!!
وهناك- فى منطقة العباسية الشرقية- مازال هذا المصنع باقياً، بل وبسبب رمزية هذا المشروع النهضوى فإن مصر أطلقت اسم مصنع الطرابيش على الشارع الذى يقبع فيه هذا المصنع حتى الآن، متفرعاً من شارع العباسية، عند الخازندار، وقام هذا المصنع «الرمز» بإنتاج الطرابيش إلى أن قامت ثورة يوليو بإلغاء ارتداء الطربوش.. ولكن الفكرة كانت رائعة لتمصير الصناعة والاقتصاد الوطنى.
بل إن المنصفين يرون أن فكرة «مشروع القرش» جاءت إحياءً ودعماً لفكرة وجهد طلعت حرب باشا بإنشاء بنك مصرى صميم يرعى نهضة صناعية جديدة، تقوم على الاعتماد على أموال المصريين، ونجح طلعت حرب بذلك فى إنشاء عشرات المصانع والشركات الوطنية لتمصير الاقتصاد الوطنى، وهو الجانب الإيجابى الأساسى لثورة 1919.
وكان من المتوقع- بعد حرب أكتوبر 1973- أن تنشأ حركة شعبية قومية لبدء نهضة جديدة تصاحب هذا النصر العسكرى والسياسى الجديد.. ولكن- بكل أسف- نشأت فكرة الانفتاح.. وصاحبت هذه الفكرة- بكل أسف أيضاً- فكرة التخلص من القطاع العام وشركاته ومصانعه، بحجة فشل الحكومة فى إدارتها، بل وفى تطويرها.. وهكذا بدأت عملية بلا أى وعى لتصفية هذه المصانع «القومية» الكبرى.. وبذلك قتلنا بأيدينا مبدأ «توطين الصناعة» والاعتماد على الإنتاج الوطنى.. وهذه كانت جريمة كبرى، هدفها الظاهرى فشل إدارة الدولة لها.. بينما كان هدفها الحقيقى هو قتل الصناعة الوطنية.
** وتوسعنا فى كارثة الاستيراد.. التى شملت كل شىء.. حتى أصبحنا نستورد بحوالى 58 مليار دولار.. ولا نصدر إلا بما هو حوالى 23 ملياراً، وهذا من أهم أسباب انهيار الاقتصاد المصرى.. وانهار معدل الإنتاج الوطنى، وكان هذا لصالح الاستيراد، هنا كان لابد من جرس إنذار.. أن ندق جرس الخطر.. فكانت صرخة «صنع فى مصر» محاولة للإنقاذ.
** ولكن هل تكفى هذه الصرخة.. أم لابد من إيقاظ الوعى القومى بمشاركة الشعب كله.. لإنقاذ الوطن؟.. وأحلم هنا بمشاركة شعبية حقيقية.. فالوزارة، بل كل الحكومة، لا تستطيع أن تعمل كل شىء.. والقفة أم ودنين يشيلها اتنين، والشعب كله هنا هو اليد الفعلية، بل الحقيقية، لأنه هو المستهلك.. وهو المنتج الذى يمكنه أن يحقق المعجزة.
** فهل ننطلق- نحن الشعب المصرى- لتحقيق هذه المعجزة؟ أنا واثق من ذلك لنبنى معاً: مصر الحديثة.