عادت الست نفيسة إلى منزلها في حى الأزبكية، بعد أن احتجزها الوالي العثماني فترة تحت الرقابة في بيت شيخ السادات الأشراف، لكن عساكر الباشا خورشيد باشا ظلوا يحاصرون بيتها، حتى تدفع ما ألزمها به هي وحريم المماليك، وفى تلك الأثناء لم تكن الأمور تسير على هوى الباشا، واستشعر بالمخاوف والقلق من تزايد نفوذ محمد على وسط العلماء والعامة وما حظى به من تقدير وثقة، فسعى لإبعاده عن مصر بطرق شتى، فطلب من السلطان العثماني استدعاء فرق الألبان (الأرناؤود) إلى إسطنبول، ولكن محمد على رفض تنفيذ ذلك بتأييد من العلماء، فعاد خورشيد باشا وطلب من محمد على التوجه إلى الصعيد لمطاردة المماليك العصاة، بهدف إبعاده عن القاهرة، وفي الوقت نفسه طلب من الباب العالي إرسال فرق عسكرية لدعم سلطة الحكم، فأرسل له السلطان فرقاً عرفت بالدالاتية قامت بأعمال نهب وسلب ونغصت حياة الأهالي، مما رفع درجة الغضب العام ضد خورشيد باشا.
ولقد سرد الجبرتى هذه الوقائع في عجائب الآثار في التراجم والأخبار قائلا: «في أول صفر 1220 هـ (الموافق أول مايو من عام 1805 م) حضر سكان مصر القديمة نساء ورجالا إلى الجامع الأزهر يشكون ويستغيثون من الدلاتية، الذين أخرجوهم من مساكنهم وأوطانهم قهرًا، ولم يتركوهم يأخذون ثيابهم ومتاعهم بل منعوا النساء أيضا، ولم يستطيعوا التخلص منهم إلا بتسلق ونط من الحيطان.
ركب المشايخ وصعدوا إلى القلعة حيث مقر خورشيد باشا وشرحوا له الحالة المتردية التي تعيشها البلاد والعباد فكتب فرمانًا للدلاتية بالخروج من الدور وتركها إلى أصحابها فلم يمتثلوا.
وخاطب المشايخ الوالي العثماني أحمد باشا خورشيد مرة أخرى وأخبروه بعصيان الدالاتية فقال إنهم سيسافرون بعد ثلاثة أيام، لكن المشاكل ازدادت ولم تتوقف أعمال السلب والنهب، فاجتمع المشايخ يوم الخميس بالأزهر وتركوا قراءة الدروس وخرج الأولاد الصغار يصرخون بالأسواق ويأمرون الناس بغلق الحوانيت وحصل بالبلدة ضجة ووصل الخبر إلى الباشا، فأرسل مبعوثا إلى الأزهر لكن المشايخ كانوا قد انتقلوا إلى بيتهم، فذهب إلى بيت الشيخ الشرقاوي وحضر السيد عمر أفندي مكرم وغيره فكلموه ثم انصرف وعند خروجه رجمه الأولاد بالحجارة وسبوه وشتموه.
وفي الأحد الثاني عشر من صفر ركب المشايخ إلى بيت القاضي واجتمع به الكثير من المتعممين والعامة والأطفال حتي امتلأ الحوش والمقعد بالناس وصرخوا قائلين شرع الله بيننا وبين هذا الباشا الظالم وهتف الأولاد: «يا متجلي أهلك العثملي»
تفاقمت الأمور في الأيام التالية واجتمع العلماء والمشايخ والعامة على عزل خورشيد باشا وطلبوا من محمد على أن يكون واليا عليهم فامتنع أولا ثم رضي، وألبس عمر مكرم، نقيب الأشراف، والشيخ الشرقاوي، شيخ الأزهر، محمد على كركا وقفطانا لإعلانه واليا بإرادة الشعب، ونادوا في الشوارع، فقال الوالي وقتها إن الشعب لا يعين ولا يعزل، إنما هذا الحق فقط للسلطان العثماني.
الشعب الثائر لم يمتثل لمقولة الباشا العثمانى الذين عزلوه بإرادتهم، وعاشت مصر أياما متتالية من الفوضي والمواجهات، بين الشعب وخورشيد باشا حتي جاء الفرمان العثماني، بالاستجابة لمطالب الشعب بإسقاط خورشيد وتعيين قائد عساكره في مصر محمد على واليا على البلاد استجابة لرغبة الشعب.
وتولى محمد على حكم مصر في 17 مايو م 1805 وكان عمره 36 عاما، وكان قد تابع عن كثب حادثة استدعاء الست نفيسة إلى القلعة من جانب خورشيد، وسرعة تحرك العلماء والمشايخ لحمايتها، وأدرك أن هناك الكثير من التوازنات التي يجب أن يحرص عليها في هذا المجتمع الجديد عليه، ومقام الست نفيسة بين النخبة وفي المجتمع القاهري.
ولكن في نفس الوقت كانت الست نفيسة تمثل لمحمد على بقايا عهد المماليك الذي كانوا مازالوا لهم نفوذ وسلطة ويناصبونه العداء، وكان لابد من القضاء على طبقة المماليك ليبدأ مشروعه الكبير ويحقق طموحه بالزعامة المنفردة، ولقد سعى قبل مذبحة القلعة بسنوات بإضعاف مصادر دخل هذه الطبقة التي كانت على رأس الهرم الاجتماعى في مصر.
ولقد أدركت الست نفيسة بذكائها وخبرتها أن محمد على باشا ليس بأفضل من سابقه، ولم تنخدع مثل العلماء والمشايخ والعامة من المصريين بتودده وكياسته، ولقد أثبتت الأيام صحة تقديراتها.
فبعد توليه منصبه خلفا لخورشيد باشا بشهور قليلة، وتحديدا في الأول من شعبان 1220 هـ الموافق أكتوبر 1805 م، أصدر أمرا برفع حصص التزام نساء المماليك، كان ذلك أولى خطواته نحو مصادرة أملاكهن، كما استخدم وسيلة أخرى في السيطرة على أملاكهن العقارية، فقد شجع أتباعه على الزواج بأرامل أمراء المماليك، ومن كانت ترفض أو تمتنع، كان يتم مصادرة ما بيدها من الالتزام والإيراد ويخرجونها من قصرها، وينهبون متاعها، فما يسعها إلا الإجابة والرضا بالقضاء، على حد قول الجبرتي.
كانت الست نفيسة في هذا الوقت قد تجاوزت الستين من عمرها، ولقد توالت عليها المحن والخطوب مما أثقل كاهلها، لكن محمد على لم يراع السن ولا المكانة السابقة.. وتجرعت الست نفيسة كأس المرارة قطرة.. قطرة.. وهى ترى بعين رأسها كيف استباح محمد على باشا دم المماليك وأموالهم وأعراضهم.
وللحديث بقية....