تجاوز الباشا العثماني خورشيد باشا كل التقاليد المعمول بها في ذلك الزمان في بدايات القرن التاسع عشر، وأصدر قرارا باستدعاء الست نفيسة خاتون المرادية إلى مقر حكمه في القلعة، فأرسل إلى قصرها بالأزبكية فرقة من العسكر بقيادة الوالي والمحتسب، وبدا أنه يدبر شيئا كبيراً وغير متوقع، ولما ظهر غضب الهانم ذات المكانة الرسمية والشعبية الكبيرة، ووجهت إليه عبارات اللوم على هذا التصرف الذي لا يليق بالحكام من قبله، اعتذر الباشا عن طريقة الاستدعاء، لكنه قرر احتجاز الست نفيسة، وعدم عودتها إلى قصرها لأسباب لم يكشف عن حقيقتها، فقد أمر العسكر باصطحابها إلى بيت الشيخ السحيمي المجاور لقلعة الجبل، حيث أقامت في حراسة جماعة من العسكر.
ويقول الجبرتي: لما شاع خبر احتجاز الست نفيسة، تكدرت خواطر الناس، وركب القاضي ونقيب الأشراف وشيخ السادات، والشيخ الأمير، وطلعوا إلى الباشا وكلموه في أمرها، وسألوه عن سبب احتجازها، فقال لا خوف عليها، فقد أنزلتها ببيت الشيخ السحيمي مكرمة، حسماً للفتنة، فقد حصل منها ما يوجب احتجازها
قال الشيوخ: نريد بيان الذنب، وبعد ذلك إما العفو أو العقاب.
فاتهمها الباشا بتدبير انقلاب عسكري ضده قائلا: إنها سعت لاستمالة بعض كبار العسكر للانضمام إلى المماليك العصاة، ووعدتهم بدفع أجورهم، وبما أنها تقدر على دفع رواتب المماليك الخارجين، فينبغي أن تدفعها لنا.
فقالوا: إن ثبت عليها ذلك فإنها تستحق ما تأمرون به، لكن الاتهام يحتاج أن نتفحص فيه.
وتم تكليف الشيخ الفيومي والشيخ المهدى، بالتوجه لمقابلة الست نفيسة في بيت الشيخ السحيمي، وخاطباها في ذلك، فقالت هذا الكلام لا أصل له، وليس لي مصلحة في ذلك، وليس لي من المماليك زوج أو ولد، حتى أخاطر بسببه، فإن كان قصد الباشا مصادرتي فلم يبق عندى شيء لأعطيه له، وعليَّ ديون كثيرة.
فعاد الشيوخ إلى القلعة، وتكلموا مع الباشا، لكنه استمر يجادلهم، ويرفض الإفراج عن الهانم، فغضب الشيخ الأمير، وقال للترجمان: قل لأفندينا.. هذا أمر غير مناسب ويترتب عليه مفاسد، ويوقع علينا اللوم إن تركناه، فإن صمم الباشا على رأيه واستمر في احتجاز الهانم، فلا علاقة لنا بشيء من الحكم والتدبير، وليس أمامنا إلا أن نخرج من هذه البلدة.
وقام الشيخ الأمير، معلنا انسحابه من المجلس، فأمسك به الحاضرون، وأيده في الرأي قاضي القضاة العثماني الذي تفهم خطورة الموقف وتداعياته، ونصح الباشا أن يطلق سراح الست نفيسة، لكن خورشيد باشا شعر بحرج في التراجع، فاقترح مصطفى أغا الوكيل أن يصدر الباشا قراره بعدم احتجاز الهانم، على ألا تعود إلى قصرها بالأزبكية، ولكن تقيم في بيوت أحد المشايخ الذي يضمن عدم اتصالها بأحد من المماليك، فاختارت الست نفيسة بيت شيخ السادات، ووافق الباشا على ذلك، وعندما توجه المشايخ إلى بيت شيخ السادات ومعهم الست نفيسة وجاريتيها، وجدوا عديلة هانم ابنة إبراهيم بك قد سمعت بما حدث، وجاءت في استقبال نفيسة قادن، والإقامة معها حتى تنتهي الأزمة، وبعد أيام أفصح الباشا عن غرضه، وأعلن عن حاجته إلى تحصيل خمسة آلاف كيس استقر منها على طائفة القبطة 1500 كيس، وعلى الست نفيسة وبقية نساء الأمراء 800 كيس، والباقي يوزع على بقية الملتزمين من الشيوخ وأهل الحرف والطوائف، ورفضت الست نفيسة في البداية دفع أي غرامات أو إتاوات، لكن التضييق عليها استمر، وألزموها بتحصيل الأموال من بقية نساء الأمراء، وجعلوا عديلة هانم ابنة إبراهيم بك متضامنة معها في ذلك، وقالوا لهما «الضامن غارم»، فاشترطت العودة إلى بيتها وتركها في حالها، ولما وافق الباشا وزعت المبلغ بمعرفتها على باقي الهوانم، لكن الباشا أرسل عددا من العساكر يلازمون بيتها، وبيوت بعض النساء للضغط عليها حتى تدفع ما التزمت به.
في ذلك الوقت كان محمد على يتابع ماحدث، ولم يتدخل، لكنه أدرك الكثير من التوازنات التي يجب أن يحرص عليها في هذا المجتمع الجديد عليه، وأدرك مقام الست نفيسة بين النخبة وفي المجتمع القاهري أيضا، فالتزم الحذر، حتى تصاعدت الضغوط من المشايخ والأعيان ونخبة المجتمع القاهري، ورفعوا مذكرة إلى الباب العالي للمطالبة بعزل خورشيد باشا، ولم تمض شهور حتى تحقق ذلك في خريف العام.
لكن علاقة الست نفيسة بمحمد على لم تكن أفضل حالاً.. ولهذا قصة نحكيها في المقال المقبل..