للمرة الثالثة تستيقظ الست «نفيسة المرادية» على حرائق قريبة من بيتها بالأزبكية، وأصوات جلبة وصياح، ولما تقصت ما يحدث، قال لها مماليكها أن أعدادا من أولاد البلد خرجوا يحرقون وينهبون، ويقتلون كل من يقابلهم من الفرنسيس، حتى أنهم قتلوا حاكم القاهرة نفسه الجنرال ديبوي.
شعرت نفيسة بانقباضة تملأ صدرها بالقلق، وأمرت مماليكها باليقظة وتشديد الحراسة على البيت والساقية والطاحون، وارسلن مجموعة أخرى إلى وكالتها بالسكرية، هذا في الوقت الذي تلقى فيه نابليون خبر مقتل صديقه ديبوي بغضب شديد، وأدرك أن ثورة القاهرة لن تتوقف على احتجاجات التجار، وشكوى العوام الغاضبين من زيادة الضرائب، لكنها ستكون فرصة يستغلها المناوئون له من المماليك وأتباع السلطان العثماني، فلم يتريث لمناقشة الاحتجاجات، وأصدر أوامره بقمع الثورة بعنف، ونصب المدافع على محيط القاهرة وبدأ يقصف الأحياء الثائرة حول الأزهر بالمدافع، ويقول الجبرتي فلما سقط القنبر (القنابل) على الأحياء، ولم يكن الناس رأوا ذلك في عمرهم، فخرجوا في الشوارع ينادون: يا سلام من هذه الآلام.. يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف، وهربوا من كل سوق ودخلوا في الشقوق، وتتابع الرمي من القلعة والتلال المحيطة بالعاصمة حتى تزعزعت الأركان وهدمت في مرورها حيطان الدور وسقطت في بعض القصور ونزلت في البيوت والوكائل وأصمت الآذان بصوتها الهائل، فلما عظم هذا الخطب وزاد الحال والكرب ركب المشايخ إلى كبير الفرنسيس ليمنع القصف، فاتهمهم بالتقصير في نصح الناس بضرورة طاعة الفرنسيين، فاعتذروا إليه، فقبل عذرهم وأمر برفع الرمي عنهم وقاموا من عنده وهم ينادون بالأمان في المسالك، وأصدر نابليون بيانا ألصقوه بالأسواق تضمن العفو والتحذير من إثارة الفتنة، وأن من قتل من المسلمين في نظير من قتل من الفرنسيس، على أن يدفع كل شخص المقرر عليه، فلم يعارض في ذلك معارض، والذي لم يرض بالتوت يرضى بحطبه (حسب تعبير الجبرتي)، واصدر مشايخ الديوان بيانا آخر بعنوان «نصيحة من كافة علماء الإسلام بمصر المحروسة» قالوا فيه: «ادفعوا ما عليكم من أموال وخراج ولا تعلقوا آمالكم بإبراهيم ومراد»، لكن الأحوال لم تمض كما خطط نابليون، وبعد سفره إلى الشام تاركا القيادة للجنرال كليبر، اندلعت في ربيع العام التالي ثورة القاهرة الثانية، فقمعها الجنرال الوحشي بعنف ودك حي بولاق تماما، وفرض الغرامات على شيوخ الديوان أنفسهم بمقدار مليون فرانسة، وأغلق عليهم الباب قائلا: الدفع أو الحبس، وظلوا طوال اليوم يحايلون المترجمين للسماح بالخروج للتصرف في تحصيل الغرامات، وجاءت فرقة من العساكر لتفتيش البيوت ومصادرة مافيها، أو الأماكن التي يدل عليها المشايخ، ومن لم يدفع حبسوه في القلعة لحين السداد، وكان الشيخ محمد ابن الجوهري قد هرب، فنهبوا داره، ودار نسيبه المعروف بالشويخ، فأرسل إلى الست نفيسة زوجة مراد بك، لأنه كان يعلم أنها التقت بكليبر أكثر من مرة، وأنها تتوسط لمصالحة بينه وبين زوجها مراد بك الذي يتحصن في الصعيد، وبالفعل استجاب كليبر لشفاعة الست نفيسة، ورفع الغرامة عن الشيخ الجوهري ووضعها ضمن «الفردة العامة»، التي أوكل جمعها ليعقوب القبطي بدلا من مشايخ الديوان.
وعادت نفيسة تفكر في طريقة أفضل للاستفادة من إلحاح كليبر عليها للمساعدة في إنجاز المصالحة بين الفرنسيين وبين الأمير مراد بك، حتى أنه كلف الجنرال فورييه بمتابعة هذه المهمة معها بشكل مستمر، وتعلمت نفيسة خاتون أن كل من يجلس في كرسي السلطة يتشابه مع غيره، طالما يتعلق الأمر بتحصيل الأموال، وحينها فإن أحدا لن يتذكر جهودها، وقد سجل فورييه جانبا من هذه المباحثات في مذكراته، وأثنى على ذكاء الست نفيسة وبراعتها في التفاوض، فعندما عرض عليه فورييه أمر المصالحة، أخبرها بموافقة القائد العام على تعيين مراد بك حاكما للصعيد، مع وعد بتعيينه حاكما مطلقا لمصر عند جلاء الفرنسيين، ويقول فورييه أن السيدة الرزينة تعاملت بهدوء مع العرض، ولم تتسرع في إعلان موافقة زوجها، برغم الإغراءات المقدمة في العرض، لكنها ردت بترفع قائلة: لابد فعلا من الدخول في مفاوضات عاجلة، لأن إهدار الوقت خسارة كبيرة، فمثلا لو كنت قد طرحت عرضك هذا قبل ثمانية أيام، لكان مقبولا فورا، لكن هذا لايعني أن الوقت فات، فهذه خطوة ضرورية، ويسعدني أن يتوقف زوجي عن القتال وحياة الخطر، فأنا بطبيعة الحال لا أريده مطارداً ولا ميتاً، لذلك ليس هناك أفضل من المصالحة بين جميع الأطراف.
يسجل فورييه في مذكراته: لقد لفتت نظري بلباقتها وطريقتها الدبلوماسية الراقية في التفاوض والنقاش في أمور صعبة مثل السياسية والحرب، بل أنها أبدت اهتماما بتسريع موعد انسحاب الفرنسيين من مصر، وقالت إنها يمكن أن تتوسط في ذلك لإتمام الانسحاب عن طريق البر تحت رعاية الصدر الأعظم، في حالة رفض الإنجليز الموافقة على مصالحة كريمة للفرنسيين، ووضع العقبات في طريق البحر.
في هذه الفترة زاد احترام الفرنسيين للست نفيسة، وشاركوا في توصيل المؤن والمواد الغذائية التي كان يحرص مراد بك على إرسالها لها، وتتضمن مجموعة الوثائق الخاصة بالجنرال دونزيلوه أثناء خدمته في الصعيد، رسائل من مراد بك يؤكد فيها على سلامة وصول الشحنات التي كان يرسلها إلى قصر الست نفيسة بالقاهرة، ومنها وثيقة في نهاية عام 1800 تكشف عن حجم ونوع المؤن التي يرسلها مراد بك، وكانت على هذا النحو: 2000 أردب من الحبوب، 200 قنطار من السكر، 40 قنطارًا من البن، 100 قنطار من الزبد، 100 قنطار من الزيت، 400 خروف، بالإضافة إلى 200 قنطار من الفحم.
في هذه الفترة لم يكن كليبر، ومن بعده الجنرال مينو يردون شفاعة للست نفيسة، وكانت كلمتها مسموعة، وتم تخصص راتب شهري لها مقداره 100 ألف فضة لتحافظ على وضعها الاجتماعي، والأهم أنه يعبر عن تقدير وتكريم قادة الجيش الفرنسي..
لكن دوام الحال من الحال، فقد تغيرت الأحوال.
وللحكاية بقية...