مرة أخرى صارت نفيسة هانم مهددة من خصوم زوجها الأمير مراد بك، الذي هرب إلى الصعيد، بعد وصول القبطان العثماني حسن باشا، الذي أرسله السلطان لإعادة فرض السيطرة على الولاية التي تضخ الذهب لخزانة الدولة العثمانية، وعندما وصل حسن باشا إلى القاهرة أمر بمصادرة أموال الأمراء المماليك الهاربين، والتحفظ على بيوتهم وفي مقدمتهم الأمير إسماعيل بك شيخ البلد، وشريكه في الحكم الأمير مراد بك، وذهبت فرقة عسكرية لإغلاق بيت الأمير مراد بالأزبكية، وتسمير أبوابه وكل الفتحات ووضع حراسة عليه، لحين تفتيشه والحصول على الأموال المخبأة.
ولما وصل الجنود رفضت نفيسة المرادية مغادرة بيتها، وقلت إذا كنتم تريدون إغلاق بيت مراد بك، فأغلقوا بيته الذي في الجيزة، فهذا بيتي أنا، ولن أخرج منه، فاكتفوا بإغلاق بيته الكائن على رصيف الخشاب المجاور لبيت نفيسة هانم.
استمرت القوة بقية النهار في تنفيذ مهمة التفتيش لبيوت الأمراء الآخرين، وتقصي مخابئ ودائع الأمراء، وتم التوصل إلى أماكن البيوت السرية لهم ولأتباعهم، وتم تشميعها والختم عليها، وتم استدعاء زليخة زوجة إبراهيم بك وحبسها في بيت كتخدا الجاويشية، هي وضرتها أم مرزق بك، حتى صالحا على نفسيهما بجملة من المال والمصاغ، وتم استدعاء نفيسة المرادية فرفضت الذهاب، ولما سمعت أنهم احتجزوا زليخة قادن إحدى زوجات إبراهيم بك، احتمت في بيت صديقة لها من زوجات الأجانب المقيمين في الأزبكية، ولم يستطيعوا التوصل إليها، فطلبوا من السيد البكري ودائع مراد بك فسلمها للباشا، وكانت زليخة قادن لاتزال رهن الحبس فركب المشايخ إلى حسن باشا وتشفعوا عنده فيها، فأجابهم: تدفع ما على زوجها للسلطان وتخلص، فإن أزواجهن لهم مدة سنين ينهبون البلاد ويأكلون أموال السلطان والرعية، وقد خرجوا من مصر على خيولهم وتركوا الأموال عند النساء، فإن دفعن ما على أزواجهن تركت سبيلهن إلا أذقناهن العذاب. وانفض المجلس.
بعد أيام كانت قوات الباشا قد جمعت الجواري من بيوت الأمراء، وصادرت كل ما فيها، فأخذوا جواري عثمان بك الشرقاوي ومحظيته التي في بيته الصغير، وجواري أيوب بك، وسليمان أغا الحنفي، وغيرهم، وحاصروا عدة بيوت بدرب الميضأة بالصليبة وطليون ودرب الحمام وحارات المغاربة، وأمر حسن باشا ببيع كل الجواري في مزاد، بينما لم يستطع أحد أن يقترب من بيت نفيسة بالأزبكية وهو الذي يضم 56 جارية و400 مملوك، بالإضافة إلى مشاريعها التجارية والخيرية، وهذا يدل على أن نفيسة قادن لم تكن بالمرأة السهلة التي تعصف بها رياح السياسة وصراعات السلطة، وأن طريقتها في الإدارة كانت تؤمن لها حياة أكثر استقرارا من حياة زوجها المتغطرس بقوة السلاح، والذي قضى معظم سنين حكمه هارباً أو مطارداً.
ولما غادر حسن باشا القبطان عائدا إلى الأستانة، انفرد إسماعيل بك الكبير بإمارة مصر، وصار بيده العقد والحل والإبرام والنقض، لكن مراد بك لم يستسلم للبقاء في سوهاج حيث يتحصن وقت الأزمات، وبدأ يرتب للعودة، فزحف ناحية بني سويف واجتمع مع إبراهيم بك، وبدأت المفاوضات مع الوالي في القاهرة، وكانت الشهور التي بدأ بها إسماعيل بك حكمه من أسوأ الأيام التي عاشها سكان القاهرة، فقد كان يردد دوما أن خزنة السلطنة صارت فارغة بسبب الحروب مع روسيا، وأن مصر لابد أن تملأ هذه الخزانة، ففرض غرامات باهظة ومكوس مبالغ فيها، وانتشرت قواته تصادر كل شىء في القاهرة والأقاليم، وعن هذه الأيام يقول الجبرتي: «حصل وقف حال وضيق في المعايش وانقطاع للطرق وعدم أمن وعسر في الأسفار براً وبحراً».
في هذه الظروف الصعبة قررت نفيسة قادن أن تتوسع في أنشطتها الخيرية، إلى جانب حماية أعمالها التجارية، فكانت تتدخل بالوساطة لتخفيف المظالم، وتتبرع للفقراء، وتزور البيمارستانات، وتسدد بعض الغرامات للفقراء، حتى ناداها الناس بلقب «أمنا نفيسة» و«نفيسة الكبيرة» و«أم المماليك»، وسرعان ما تصالح أمراء السلب والنهب وعاد مراد بك وإبراهيم بك يشاركان إسماعيل بك السلطة والظلم، وسرعان ما أنهى الطاعون حياة إسماعيل بك لينفرد الشريكان بالحكم حتى قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر.
في الأيام الأولى للحملة تذكرت نفيسة كم مرة فيها نصحت السلطة ممثلة في زوجها مراد بك بعدم الاعتداء على قوافل التجار الفرنسيين، وعدم اضطهاد الأجانب، ويبدو أن المخاوف التي حذرت منها قد وقعت، لكنها ظلت رابطة الجأش، لم تفكر في الهرب، حتى بعد هزيمة المماليك وهرب زوجها مرة أخرى، وهرب معه كثير من الناس كباراً وصغارًا، أغنياء وفقراء، كانت الأحوال مضطربة بشدة، فالعلماء والمشايخ ظلوا أياما يتحلقون داخل الأزهر يقرأون البخاري وغيره من الدعوات، ومشايخ فقراء الأحمدية والرفاعية والبراهمة والقادرية وغيرهم من الطوائف وأرباب الأشاير يجمعون العامة ويقيمون الذكر ويقرأون الأوراد، وأطفال الكتاتيب يرددون وراء شيوخهم اسم اللطيف، ويدعون بالأسماء الحسنى، بينما كان الأغنياء وأولو المقدرة يستعدون للهروب، والعامة في الشوارع هاجوا وماجوا، وهم جميعاً في غاية الخوف والفزع، يشعرون بالهلاك ويضجون بالعويل والنحيب ويبتهلون إلى الله من شر هذا اليوم العصيب، والنساء يصرخن بأعلى أصواتهن من البيوت، وأرسل إبراهيم بك يأخذ حريمه، وكذلك فعل الأمراء فأركبوا النساء بعضهن على الخيول وبعضهن على البغال والبعض على الحمير والجمال والبعض ماش كالجواري والخدم، واستمر معظم الناس طول الليل خارجين من مصر البعض بحريمه والبعض ينجو بنفسه، ولا يسأل أحد عن أحد بل كل واحد مشغول بنفسه عن أبيه وابنه، فخرج تلك الليلة معظم أهل مصر، ولم تخرج نفيسة.
في المقال المقبل نتعرف على بقية القصة.