x

مي عزام نفيسة تصالح نابليون (شخصيات تبحث عن مؤلف -7) مي عزام الأحد 19-06-2016 21:31


في نهاية يوليو 1798 دخل نابليون بونابرت إلى القاهرة وسكن بيت محمد بك الألفي بالأزبكية القريب من بيت الست نفيسة قادن، وسكن القنصل مجالون في بيت مراد بك على رصيف الخشاب القريب أيضا من بيت نفيسة، وقد تعرفت على مجالون أحد القناصل الذين يرعون شؤون التجار الفرنسيين في الإسكندرية، حيث تقيم عائلته منذ سنوات طويلة، وفي هذه الأيام أسست نفيسة ما يشبه أول تجربة للهلال الأحمر، وفتحت بيتها لعلاج جرحى القتال من الجانبين، ولم تفرق بين جرحى المماليك وجرحى الفرنسيين، بل إن جرحى الفرنسيين كانوا الأكثر، نظرا لهروب جرحى المماليك خشية القبض عليهم في القاهرة، وبالفعل تم القبض على أعداد منهم، وبعد استدعاء نابليون للمشايخ والأعيان وكبار القوم من المسلمين والأقباط تشفعوا لدى نابليون في الأسرى الذين تم احتجازهم، وقبل بونابرت الشفاعة، وأصدر بيانا دعا فيه كل من نهب شيئا من البيوت أن يحضر به إلى بيت قائمقام، وإن لم يفعل سيعرض للعقاب، وطمأن نساء الأمراء بالأمان والبقاء في بيوتهن، بشرط إن كان عندهن شيء من ثروات وأسلحة أزواجهن يظهرنه، فإن لم يكن عندهن شيء يصالحن على أنفسهن، مقابل التزام الجيش الفرنسي بحمايتهن، وفي مطلع أغسطس 1798 بعد أسبوع واحد من دخوله القاهرة، أصدر بونابرت قراراً خاصاً بتشكيل لجنة لحصر ممتلكات الست نفيسة وحدها، وإعداد قائمة بكل محتويات قصرها الكبير بالأزبكية بما في ذلك المماليك والجواري، لمصادرة كل ذلك فيما عدا 6 جواري و7 مماليك لخدمتها، مع بعض الأثاث البسيط، إلا إذا صالحت عن نفسها ودفعت لخزانة الجيش 600 ألف فرنك، وفي حالة عدم توفر المبلغ دفعة واحدة يتم تقسيطه بمعدل 5000 فرنك في اليوم.

كان نابليون يعرف قدر السيدة، فأرسل إليها وفدا يترأسه الملازم بيهارنيه ابن زوجته جوزيفين، وبدا أنه يساومها بلعبة العصا والجزرة، فهو يجاملها ويعاملها بلطف وتوقير، لكنه يريد أن يستخدمها في السيطرة على حريم الأمراء المصرلية، وفي مقابل مبلغ المصالحة الكبير، نقل إليه بيهارنيه رسالة الجنرال بأن يترك لها مشروعاتها التجارية والأرض الزراعية التي تملكها دون مصادرة، وضغط بونابرت بشدة على الست نفيسة لكي يحسم تعاونها معهم في إنجاز المصالحة مع الحريم المملوكي، بدون صدام كبير مع تقاليد المجتمع الإسلامي، وبالفعل صالحت الست نفيسة على نفسها وأتباعها من نساء الأمراء وقادة المماليك الهاربين، بمبلغ قدره 120 ألف فرانسة (حوالي 200 ألف ريال، وكتبوا لها أوراقاً بالأمان وختموا المصالحة، وسلمها لها صديق العائلة القنصل مجالون.

في سبتمبر من نفس العام احتفل الفرنسيون بعيد ثورتهم، وأرسلت نفيسة دعوة إلى نابليون وكبار قادته لحضور مأدبة عظيمة في بيتها، وحضر نابليون الحفل في بيت نفيسة هانم التي كان يطلق عليها «الست نفيسة الجميلة»، وأهداها جوكار من الجواهر المرصعة بألوان العلم الفرنسي الأزرق والأبيض والأحمر، وبعد أسابيع فوجئت نفيسة قادن بالجنرال ديبوي، قائمقام القاهرة، يرسل إليها طلبا لاستدعائها على أن تحضر معها زوجة عثمان بك الجوخدار الشهير بلقب «الطنبرجي»، فامتنعت عن ذلك، وأرسلت إلى أعضاء الديوان من المشايخ الذين اختارهم نابليون لإدارة الأمور، فحضر إليها الشيخ محمد المهدي والشيخ موسى السرسي، ولما سمعا القصة، وعلما برفضها تسليم زوجة عثمان بك، حاولا إقناعها بالاستجابة لطلب القائمقام، لكنها رفضت بشدة، وقالت: ومافائدة المصالحة التي دفعنا فيها الكثير؟، وما قيمة الأوراق المختومة؟، فقالا لها إن الاستدعاء قد يكون للاستعلام عن أمر ما للاطمئنان وإبراء الذمة، فقالت إن كان ولابد سأحضر معها لأعرف سبب طلبها المخالف للاتفاق، وذهبت بصحبة الشيوخ وزوجة الطنبرجي ومعها عدد من نساء البكوات ومماليك الحراسة جواري الخدمة، وتبين أن السبب في طلب الاستدعاء أنهم وجدوا رجلاً فراشاً يحمل بعض الأموال والمستلزمات من ثياب وغيره، فقبضوا عليه، ولما استعلموا منه عن ذلك قال إنه يعمل عند زوجة عثمان بك، وإنها أعطته ذلك لتوصيله إلى سيده عثمان بك، وهذا هو السبب في طلبها، فسألت نفيسة قادن: وأين الفراش؟ فبعثوا لإحضاره، وسألت زوجة الطنبرجي عن حقيقة هذا الكلام، فأنكرته بالمرة، ولم يحضر الفراش حتى غربت الشمس، فاحتجت الست نفيسة لدى المشايخ فطلبوا من ديبوي أن تذهب إلى بيتها، على أن تأتي في الغد لاستكمال التحقيق في القضية، فقال: ديبوي محتداً: نو.. نو، فقالوا له: دعها تذهب هي، ونحن نبيت عوضاً عنها فلم يرض أيضاً، وأخذوا يلحون لكنه رفض فيأسوا وتركوها ومضوا، وصممت الست نفيسة أن تبيت معها وحضرت جماعة أخرى من النساء المسلمات ومن النساء الإفرنجيات أيضا، في أول مظهر للتضامن النسائي المدني ضد السلطة، فلما أصبح النهار ركب المشايخ إلى كتخدا الباشا والقاضي فركبا معاً وذهبا إلى بيت نابليون، فطلب مثول زوجة الطنبرجي وسلمها إلى القاضي، ولم يثبت عليها شيء من هذه الدعوة، وقرر القاضي الفرنسي عليها غرامة قدرها ثلاثة آلاف ريال فرانسة، دفعتها الست نفيسة، واقترحت عليها أن تقيم في بيتها المجاور لبيت القاضي لتكون في حمايته.

كان واضحا أن الفرنسيين مثل المماليك يريدون تحصيل الأموال من الشعب الجريح الذي عاني من الجور وسلب حقوقه، حتى تحولت هذه السياسة إلى عقدة حساسة في نفوس المصريين، فلما فرض بونابرت نظام الضرائب والرسوم الجديدة، وطالب مشايخ الديوان بمتابعة التحصيل دون إبطاء.

سرى الغضب بين الناس، وأغلق التجار الحوانيت، وهجر الباعة الأسواق، وامتع أصحاب الحرف عن العمل والدفع، وبدأ الناس في الشكوى والاحتجاج، وتجمعوا من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم وعزموا على الرفض ومواجهة الفرنسيين، واندلعت ثورة القاهرة الأولى في خريف ذلك العام.
في المقال المقبل نتعرف على بقية القصة.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية