عاد أبولبيد الملعون..
استيقظت الست نفيسة قبل الفجر بساعات، وارتفع صوتها على غير العادة وهي تنادي: منور ... يا منور، ولما كنت قريبة منها، فقد هرعت إلى مخدعها، لأن منور كانت مريضة، ونامت مرهقة منذ أول الليل.
ولما دخلت غرفة ستي كانت تجلس في منتصف السرير، عيناها فيهما إحساس غريب، وجهها شاحب، وصوتها يخرج متعباً ومرتعشاً، وكان ريقها جافاً فطلبت مني ماءً للشرب وهي تردد تلك الجملة الغريبة التي سمعتها كثيرا بعد ذلك: عاد أبولبيد الملعون.. عاد «الجاثوم» الملعون.. جثم على صدري وكاد أن ينتزع قلبي من بين ضلوعي.. ناوليني كأس الماء يا جلنار.
كانت المرة الأولى التي عرفت فيها بذلك الكابوس في الصيف التالي لوفاة سيدي الأمير مراد بك متأثرا بالطاعون في جرجا، قبل أسابيع من موعد وصوله لمصر بعد صلحه مع الفرنساوية، الذي قامت فيه «ستي نفيسة» بمفاوضات طويلة مع السر عسكر كليبر، بمساعدة صديقها القديم القنصل شارل مجالون.
في تلك الليلة المشؤومة حكت لي أن ذلك الكابوس يطاردها منذ صباها، حيث ترى نفسها في مروج خضراء مع صبايا لا يكبرن أبداً مهما مرت السنون على زمن الكابوس، وتسمع ضحكات صويحباتها، ثم فجأة تظلم السماء ويختفي كل شىء في الظلام، وتتحول الضحكات البريئة إلى صراخ مخيف، وتظهر عينان من نيران حمراء متوقدة، تكتشف أنها لوحش أسود مريع المنظر، يتجه نحوها وهي تصرخ بأعلى صوتها، حتى يكتم أنفاسها، ويمنع عنها الرؤية وهواء التنفس، حتى تكاد تموت، وعندما تستيقظ، تجد جسدها كله يؤلمها وحلقها جاف كالحطب في ظهيرة صيف، وقلبها يدق بارتجاف وصدرها منقبض كأنه بلا رئتين.
استيقظت منور من تلقاء نفسها، ودخلت للاطمئنان، فطلبت منها الست نفيسة أن تكمل نومها حتى الصباح، وفهمت أنها كانت تريد أن تبوح لي بما يثقل صدرها، وعرفت أن هذا الكابوس يتكرر فترات طويلة، حتى إنها ينتابها كل ليلة في فترات الأزمات، ثم يختفي لوقت غير محدد، قبل أن يعاد الجاثوم ظهوره البشع لينغص عليها ليلها ونهارها.
ظلت الخاتون تحكي وأنا أستمع بلا اسئلة ولا استفسارات، فقد كنت أخشى أن أسأل عن أمور لا يعجبها أن تبوح بها فتغضب من تطفلي، وقد كنت بالرغم من ارتباطي بها، واقترابي منها أصنع مسافة معها لا أتجاوزها أبداً، احتراما لمكانتها وقدرها، وحرصاُ على عدم ارتكاب أي فعل أو قول يغضبها، ومع صوت أذان الفجر، ساعدتها على الوضوء، وكانت الجواري وسكان القصر قد بدأوا في الاستيقاظ، ودخل النهار بشؤونه ومشاغله، لكنني ظللت طول اليوم في كدر يطاردني الوسواس والتفكير في حال أمنا الكبيرة، صاحبة القلب العطوف على الجميع، فهي منذ شهور تعاني دون أن تكشف أو تتخفف بالبوح، والمعاناة مع التظاهر بالقوة تنال من قوة المرأة، فالشكوى خير معين للنساء، والكلام مع المقربين بالنسبة لهن خير الدواء، ومنذ مرض زوجها الأمير مراد وموته المفاجئ والمصائب تتوالى، فالحال في البلد لم يعد كما كان، الأزبكية تغيرت وتغيرت معها مصر كلها، فقد مضى عيد النحر دون أن يلتفت إليه أحد، ولم يشعر أهل مصر بالفرحة كعادتهم، فقد نزل بهم من البلاء والذل ما لا يوصف، الفقير يعاني والغني يعاني أكثر منه، الكل معرض لخطر السلب والنهب والمغارم المكلفة، حتى فرغت الدراهم من عند الناس، وركدت الأحوال، ولم يعد أحد يجد ميسوراً يقترض منه، وصار كل فرد بشأنه ومصيبته، وإذا فكر أحدهم في بيع المتاع لا يوجد من يشتري منه، فالناس لم تعد تعمل ولا تشتري، ضاق خناق الجميع وتمنوا الموت فلم يجدوه، لذلك توقفت معظم أشغال الست نفيسة في الوكالة والخان والسكرية، وحتى الذهاب للاطمئنان لم يعد ميسوراً، بعد أن منع الفرنساوية خروج السيدات، وصادروا معظم أنواع الدواب، وأمروا بجمع البغال ومنعوا الناس من ركوبها مطلقا سوى خمسة أنفار من المسلمين هم الشيخ الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر وشيوخ الديوان الأربعة الكبار المهدي، والفيومي والأمير، وابن محرم، بالإضافة إلى الأقباط الذين يعملون مع الفرنساوية والمترجمين.
بينما أنا افكر في الهموم التي أحاطت بالخاتون كما تحيط الأسورة بالمعصم، جاء رسول من طرف قائمقائم الفرنساوي حاكم القاهرة، ومعه رسالة بقدومه للزيارة، وجاء بعده عدد من كبار المشايخ يطمئنون الخاتون أن الزيارة ليست لتحصيل ضرائب أو مغارم، أو تفتيش في الدار، لكن اليهودي حسين كاشف سعى لتأليب الفرنساوية على مماليك مراد بك المقيمين في صعيد جرجا، فذهب إلى قائمقام وأخبره أنهم خالفوا الاتفاق المبرم مع الفقيد مراد بك، وخرجوا عن طاعة الفرنساوية، وأن بعضهم توجه للسيطرة على بعض مديريات الوجه البحري، من خلال طريق في البر الغربي.
ساعدنا الخاتون في الاستعداد للقاء، وقام الخدم بإعداد مكان لائق للاستقبال في القاعة الداخلية، ومكان آخر في الحديقة، وبعد دقائق من وصول موكب قائمقام اتضح أن زيارته كانت تستهدف بالأساس تطييب خاطرها، بعد المعاكسات والغرامات التي حدثت بينها وبين قادة الحملة، وأخبرها قائمقام أنه أرسل عثمان بك الأشقر إلى جهة الشرق ليستطلع الأخبار الذي جاء به حسين كاشف اليهودي، وتأكد من عدم صحتها، وأكد لها أنها في أمان هي وجميع نساء الأمراء والكُشَّاف والأجناد، وأنه لن يأخذ النساء بذنب أزواجهن الهاربين أو المناوئين للفرنساوية.
ومن بعيد لمحت الورود تعود إلى وجه الست نفيسة، وشبح الحزن المقبض يطير بعيدا عن عينيها، وهدأ بالي قليلا وأنا أطمئن نفسي أنها ستنعم بنومها الليلة بلا جاثوم.
وفي الحكاية تفاصيل كثيرة، وللحديث بقية.