x

مي عزام شاهندة.. (شخصيات تبحث عن مؤلف -1) مي عزام الأحد 05-06-2016 21:09


وجهها منحوت بدقة، كأنه وجه تمثال فرعوني قديم، بنيتها ضعيفة، لكنها ممشوقة مثل رمح، وقوية مثل قطعة جرانيت ناعمة.. ذات يوم خرجت للاحتجاج ضد حاكم تجاسر على شعبه فقرر تكميم الأفواه بفرمان يمنح نفسه صلاحيات دستورية مطلقة، كانت صرخاتها مدوية أفزعت أنصار الحاكم، وفي مشهد سجله التاريخ كمتون الأهرامات، كتم شخص غليظ من خدم البلاط أنفاسها، لكن مشهد تكميم فمها، صار أيقونة عالمية تفضح القهر والطغيان الذي تمارسه سلطة غاشمة ضد امرأة عزلاء.

إنها شاهندة.. اسمها المفرد يكفي لاستدعاء تاريخها البطولي في النضال من أجل الفقراء والفلاحين، واسمها العائلي (شاهندة مقلد) يكشف عن عمق التعقيدات وتوغل الظلم والطبقية في حياة المصريين، فكيف لابنة ضابط الشرطة والسلطة، ربيبة العائلة الوفدية، ذات الاسم الارستقراطي أن تنحاز للفقراء غير عابئة بمصالح طبقتها؟، كأنها أنتيجون تخرج من نعيم دلال خالها كريون لتنام في حضن المأساة إلى الأبد، لكنها لا تنام مهزومة، إذ يموت كريون ولا تموت أنتيجون.

(فلاش باك)

كنت قد خططت للابتعاد عن الكتابة السياسة خلال شهر رمضان، وفكرت في أكثر من سلسلة تتيح لي الكتابة بأريحية تساعدني وتساعدكم على التخفف من مواجع السياسة والغلاء وموضوعات شد الأعصاب، وكنت قريبة نفسيا من تناول حياة الفنانة الراحلة فاتن حمامة، لأن إعجابي بمسيرتها الإنسانية لا يقل، وربما يتفوق، على إعجابي بمسيرتها الفنية، فأنا أنظر إليها كنموذج للسيدة التي استطاعت أن تحافظ على صورتها الجميلة حتى آخر لحظة في عمرها، لم تكسرها الشيخوخة، ولم تبتذل فنها، ولم تخضع لإغراءات برامج «التوك شو»، والأجور المليونية لبرامج الفضائح، لكنني أرجأت هذه الفكرة لوقت آخر، وانهمكت في قراءات تاريخية لكتابة سلسلة مقالات من وحي تاريخنا، وبالتحديد من نهايات العصر الفاطمي وحتى بدايات حكم محمد على، وأثناء قراءتي في التاريخ، لفت نظري وجود شخصيات كثيرة تبدو هامشية، لكن شيئا ما في سيرتها ومواقفها ظل يشغلني بعد القراءة، ويؤرق نومي، فأقوم من فراشي مدفوعة للبحث عن مزيد من المعلومات عن هذه الشخصيات، لكنني للأسف لا أجد إلا الإشارات اليسيرة، وأدركت كم هو ظالم أن نهتم بالأسماء اللامعة للحكام والأبطال والنجوم، ونهمل شخصيات أخرى أثرت كثيرا في مجتمعها، لكنها سقطت من التاريخ الرسمي، وبسبب استمرار انشغالي بكيفية تعويض نقص المعلومات عن هذه الشخصيات، أو نمطية المعلومات عن الشخصيات التاريخية، وإهمالها لجوانب إنسانية خافية، قفز إلى رأسي تعبير «شخصيات تبحث عن مؤلف»، وهو تعبير مستوحى من عنوان مسرحية شهيرة قدمها الكاتب الإيطالي لويجي بيرانديلو في عشرينيات القرن الماضي قبل 95 بالتحديد، ولما كان بيرانديللو اختار 6 شخصيات فقط، فقد انشغل كثيرون من مبدعي العالم بمحاكاة طريقة بيرانديللو في الكتابة على الكتابة، أو المسرح داخل المسرح، وبعد 40 سنة على أول عرض لمسرحية بيرانديللو قدم الفنان المصري الشامل سيد بدير دراما إذاعية في حلقات بنفس العنوان بدون تحديد عدد للشخصيات، وقدم فيها أنماطا متخيلة من الشخصيات في حياتنا، مثل الزبال، والبواب، وبائعة أوراق اليانصيب، والفسخاني، والخياطة، وملقن المسرح، ومقرئ القرآن الكريم.. إلخ

(من أوراق شاهندة)

ولما تابعت الأخبار التي تم نشرها بعد رحيل المناضلة شاهندة مقلد، تضايقت من التكرار والعبارات النمطية المنقسمة بين المديح من جهة والهجاء من جهة، فريق يراها سيدة عظيمة وهبت حياتها للدفاع عن الأرض والفلاحين، وناصرت الفلاحين، وفريق يراها من أذناب السلطة، بدأت مسيرتها تحت رعاية الحكم الناصري والاتحاد القومي والاشتراكي، وأنهتها بدعم المجلس العسكري بعد ثورة يناير، وتبرير كشوف العذرية، والصمت على انتهاك الحريات في حكم السيسي.

نظرت إلى صورة شاهندة، وتأملت وجهها.. الندبة الخاطفة على خدها، وطلة الحزن العميق من عينيها، وجبهتها المرفوعة تحت الشعر الأشيب المشدود، الذي يناسب وجه امرأة في جنازة، وتذكرت لوعتها كامرأة في مجتمع لايعترف إلا بالرجال، وسألت نفسي عن مشاعرها الخاصة وسط كل هذه الأحداث، ولم أجد ما اقرأه عن ذلك، حتى في الكتاب الذي كتبته شاهندة بنفسها وأصدرته عام 2006 بعنوان «من أوراق شاهندة مقلد»، لم يكن هناك إلا الإقطاع، والظلم، وقهر واستغلال الفلاحين، والصراع مع عائلة الفقي، والموت، وسرادقات العزاء، والمؤامرات المستمرة..

وأدركت أن القدر أراد أن تكون شاهندة أول شخصية تبحث عن مؤلف في سلسلة مقالاتي، لكن مفاجأة الرحيل، وموعد المقال لم يسمح لي بالبحث عن الجوانب الأخرى التي تريد شاهندة أن تفصح بها عن شخصيتها الأخرى، شخصيتها الأكثر إنسانية وأنوثة، ربما كانت تفاصيل قصة حبها مع ابن عمها صلاح حسين، ودراما رفض أمها للزواج، ومحاولة شاهندة الهروب من المنزل احتجاجا على مصادرة حريتها في الاختيار، وربما كانت صدمة اغتيال زوجها وإحساسها بالحرمان العاطفي الذي تحدثت عنه بشكل عابر ذات مرة وحيدة في أحد الأفلام الوثائقية، وربما كانت هناك قصص درامية عن ارتباطها باليسار الشيوعي، ثم خلافها المعلن مع حزب التجمع، خاصة أن شهادتها على هذه التحولات قد تكشف عن خبايا وأسرار هزيمة اليسار في مصر منذ نهايات عصر السادات وحتى الآن، وربما كانت «كمشيش» تحتاج إلى حكايات أخرى أكثر حميمية ترويها شاهندة من خلال تجربتها المعيشية، لتمنح القرية الموعودة بعدا حياتياً وإنسانياً لا يقل عن التفاصيل التي قدمها فيلم «شىء من الخوف» عن قرية الدهاشنة.

وحتى تكتمل مثل هذه الأبعاد والتفاصيل، ستبقى شاهندة.. شخصية تبحث عن مؤلف.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية