فى ختام مقالاتى عن الموهوب الفذ شيخ الألحان «زكريا أحمد» رأيت أن أبدأ بما أهمله التاريخ الفنى عن زكريا أحمد!. فالشيخ حينما اقتحم مجال التلحين عانى الكثير من قفطانه، ويروى عنه أنه حين كان يدرب الممثلين والممثلات على تمثيل المشاهد، أو أسلوب إلقاء الأغنيات، كان أحياناً يتعثر فيقع، وقد دلق القهوة أكثر من مرة على قفطانه، وقيل إنه بعد أن أكمل تلحين ست أوبريتات واشتهر، تعرّف عليه أمير الشعراء «أحمد شوقى» والناقد المسرحى المعروف «عبدالمجيد حلمى» واستطاعا إقناعه بترك القفطان والجبة، إلى البدلة والطربوش. ومنذ ذلك الوقت أصبح يلقب بـ«الشيخ زكريا أحمد أفندى».
والشيخ زكريا أحمد مثل فى السينما بالصدفة البحتة! ولهذا الحدث قصة طريفة، فقد ذهب إلى باريس مع الممثلين (جورج أبيض وعبدالرحمن رشدى والمطربة نادرة) كى يقوم بتلحين أغانى فيلم «أنشودة الفؤاد» وتسجيل الألحان لهذا الفيلم فى استوديوهات باريس، فوقع اختيار المخرج عليه لكى يقوم بدور كان سيمثله «إستيفان روستى» فى الفيلم لكنه اعتذر فى آخر لحظة. وقد ظهر الشيخ زكريا فى الفيلم فعلًا، ويقال إنه ظهر بعد ذلك فى عدة أدوار صغيرة!.
لزكريا أحمد أيضاً فضل كبير على الآذان العربية، فقد أدخل مفهوما جديداً لحالة الغناء وهو الأداء. ففى عام 1960 فى بداية الجهاز الذى ولد عملاقا «التليفزيون» قام الشيخ زكريا وعمره آنذاك 64 سنة بغناء أغنيتين من أروع أغانيه، وهما (يا صلاة الزين، والورد جميل) الأولى «يا صلاة الزين»، وهى جزء من أوبريت «عزيزة ويونس» أما الثانية «الورد جميل» فقد غنتها أم كلثوم فى فيلم «فاطمة» مع مجموعة من أغنيات بيرم تلحين الشيخ زكريا، منها (حاقابله بكرة، والليلة عيد ع الدنيا سعيد)، وانبهر الناس بأداء الشيخ زكريا أحمد لهاتين الأغنيتين، بالرغم من حجم المنافسة والمقارنة بينه وبين صوت سيدة الغناء، خاصة أنه لم يغن من قبل، وغنّى رغم كبر سنه وصوته الأجش ونفسه المقطوع، وأكد بعض الناس أن أداء الشيخ زكريا تفوق على أم كلثوم! لكن المهم أن أداء زكريا أحمد دفع ببعض المطربين والملحنين لتقليده، وصار المستمع الشرقى يقبله ويستسيغه.
الأغنيتان السابقتان من كلمات الرائع «بيرم التونسى»، الذى ارتبط بالشيخ ارتباطا وثيقا واقترب منه اقترابا قدريا.. فقد عاشا تقريبا إلى نفس العمر. ومات شيخ الملحنين بعد أربعين يومًا من وفاة صديقه وكاتبه المفضل «بيرم التونسى». و«بيرم» كان كاتبًا مشاغباً بتأثير أحواله المضطربة الناتجة عن مصريته الشديدة غير المعترف بها آنذاك وتونسيته المرفوضة ونفيه المتعدد لشجاعته وطولة لسانه، والمتاعب التى واجهته فى مصر وتونس وباريس، وسنكتب عن ذلك بالتفصيل فيما بعد، ولإثبات شجاعته وقدرته على المواجهة، يهمنى هنا أن أذكر رأيه عن أبناء مهنته «الكتّاب»، فهو يقول فى بعضهم (قد مُنيت مصر بعدد هائل من المؤلفين الجهلاء الذين تنقصهم حتى الثقافة العامة، والذين يحفظون عددًا من الألفاظ يبدلونها ويغيرونها كأحجار الدومينو). بالإضافة طبعا إلى مونولوج «يا أهل المغنى دماغنا وجعنا.. دقيقة سكوت لله» الذى فيه نقد لاذع لأهل المغنى جميعا بمن فيهم من مطربين معروفين جدًا! وقد لحن هذا المونولوج الشيخ زكريا ليؤكد تضامنه مع صديق عمره فى المواجهة. وفى النهاية، أعتقد أن أهم ما ساعدهما فى مشوارهما الفنى الصوت الذهبى الذى عبرت عليه كلماتهما وألحانهما.. وهو صوت كوكب الشرق «أم كلثوم» وهذه بعض أعمالهما لها: «أنا فى انتظارك»، «الآهات»، «بكرة السفر»، «نصرة قوية»، «الورد جميل»، «عن العشاق سألونى»، «قولى ولا تخبيش يا زين»، «حبيب قلبى وافانى»، «حبيبى يسعد أوقاته»، «يا فرحة الأحباب»، «غنى لى شوى شوى». رحمهم الله بقدر ما أسعدونا.