مما كُتب وتوارد عن الشيخ «زكريا أحمد» أنه وُلد فى يناير عام 1896، من أُمّ أصلها تركى تهوى الغناء، وأب كان مغنيًا محترفًا يغنى بالعربية والتركية والصحراوية! وأن أمه كانت كلما أنجبت بنتًا عاشت، وكلما أنجبت ولدًا مات! وقد مات قبل «زكريا» 21 شقيقا!! لذا كانت شهور ميلاده الأولى عصيبة، فقد خافت أسرته أن يحصّل إخوته السابقين، لكن لحسن حظنا أنه عاش. ومما يشاع أيضا أنه فى طفولته بحى الأزهر أرسله الأب إلى كُتّاب الشيخ «نكلة»، لكنه عضّ شيخه فطُرد منه، ثم انتقل بعده إلى الأزهر وقضى به سبع سنوات بنفس الطباع وطُرد منه وهو فى الثالثة عشرة من العمر، وتعددت روايات أسباب طرده، منها: أن شيخه كان يكثر من ضربه على العمامة فغرز فيها الشيخ زكريا عشرات الدبابيس! ولما ضربه عليها الشيخ دُميت كفه. فتشاجر معه الشيخ وتضاربا فطُرد! ومنها أيضًا أنه كان وقت دراسته بالأزهر يتردد على مقهى بشارع محمد على حيث يتعلم قواعد الموسيقى، وقد رآه أحد زملائه بالمقهى وحوله بعض الموسيقيين فكتب تقريرًا عنه! وذات يوم بينما كان الشيخ كعادته على المقهى بجواره العود وفارش منديله أمامه وعليه «عيش وبسطرمة» وهو يدوزن العود ويتناول لقمة بالبسطرمة هبط فوق رأسه خمسة من زملائه وثلاثة من أساتذته بالأزهر وقبضوا عليه متلبسًا بجريمتين: حمل العود وأكل البسطرمة! وكتبوا تقريرا بذلك وأجرى تحقيق معه، واكتفى المشرفون على الأزهر بإنذاره بألا يعود إلى الموسيقى، وبفصله لمدة أسبوع لأنه يأكل البسطرمة! لكنه أخذها من قصيرها وهرب من الأزهر.
ولعل المشكلة التى ظلت معلقة بينه وبين أم كلثوم لثلاث عشرة سنة من عام 1947 حتى عام 1960، والتى وصلت إلى قطيعة فنية من الشيخ زكريا لأم كلثوم، ثم قضايا فى المحاكم، كانت بسبب اعتزازه بنفسه، وهو محق فى ذلك، وصلابة دماغه بتأثير طفولته.. وكان للمقاطعة دوى هائل فى الوسط الفنى، فالشيخ زكريا كان يحبها ويبشر بها منذ أن سمعها لأول مرة عام 1919 وبدأ التلحين لها فى عام 1930، بأغنية من تأليف أحمد رامى هى «اللى حبك يا هناه» ولحّن لها جميع أفلامها بداية من عام 1936، ثم توالت ألحانه لها والتى بلغت حوالى 60 أغنية، منها: «أهل الهوى، الآهات، الأمل، أنا فى انتظارك، كل الأحبة اتنين، هو صحيح، غنيلى شوى شوى، الورد جميل، عن العشاق سألونى، حبيبى يسعد أوقاته».
وكان السبب المعلن للمشكلة التى حدثت بينهما آنذاك هو أن أم كلثوم طلبت منه لحنا فطلب خمسة آلاف جنيه ثمنا له فى ذات الوقت الذى كان يباع فيه اللحن بمئات الجنيهات، وعندما رفضت أم كلثوم قاطعها وقاضاها. وفى محكمة القاهرة فى شهر يناير عام 1960 عُقدت جلسة استمرت لأكثر من ست ساعات للفصل فى الدعاوى بينهما، وقال رئيس المحكمة السيد عبدالغفار حسنى، فى بداية الجلسة، موجها الكلام لأم كلثوم: «إن العرب كلهم تواقون إلى سماع أغنياتك التى يلحنها زكريا». ووافقت أم كلثوم وقالت: «إننى أتحدى أى إنسان أو هيئة تقدر زكريا أكثر مما أقدره أنا.. وأملى أن يعود إلى فنه وأتمنى له التوفيق». وقال زكريا: «إن أم كلثوم سيدة مطربات الشرق.. وأنا تواق إلى خدمة الفن فى شخصها.. وسألحن لها أجمل أغانيها إن شاء الله». وتصالحا واتفقا أن يلحن لها ثلاث أغنيات فى العام، والأغنية بسبعمائة جنيه. ولحن لها بعد الصلح بأشهر «هو صحيح الهوى غلاب» لبيرم التونسى، ثم توفى بيرم فى العام ذاته، وفى أربعين بيرم توفى الشيخ زكريا! وإلى مقال رابع وأخير عن «زكريا وبيرم» اللذين جمعهما الفن والقدر.