(عشت فى عصر زكريا).. عنوان مقال جميل للشاعر صالح جودت عن الشيخ زكريا أحمد، نشره بعد وفاته، وكانت هناك معرفة بينهما تبلغ أكثر من ثلاثين سنة، بدأت فى أروقة الإذاعة المصرية، لذا سنأخذ المعلومات التى ضمنها المقال كحقيقة مسلم بها. ومنها الآتى (كان الشيخ زكريا دارساً للفقه ومرتلاً للقرآن، يأخذ نصيبه من الدنيا دون أن ينسى الآخرة فى أى لحظة. وكان أديباً يقرأ الكتب والدواوين، وينظم الزجل والشعر، ويتواضع إن كان فى حضرة من هو أشعر منه. وكان من أظرف أهل الدنيا وأبرعهم فى رواية النكتة والنادرة، إلى حد أنك كنت تسمع منه النكتة للمرة المائة فتضحك فى كل مرة كأنك لم تسمعها من قبل، لأنه كان يكسوها كل مرة بثوب جديد، ويحيطها بإطار مختلف.. ولم أر مثل الشيخ فى إيمانه، كنت فى أوروبا وعدت وسألت عنه، فقال لى قائل والدموع فى عينيه! كان الله فى عونه لقد انتحر ابنه «يعقوب» ومات.. واختفى ابنه الآخر «إحسان» فلا يعرف مصيره أحد! فهرعت إلى بيت الشيخ بالقرب من العتبة الخضرة، كى أعزيه وأواسيه، فإذ بى أجده بين أصحابه- ككل ليلة- العود فى يده، يغنى، ثم يتوقف ويروى نادرة عن أصحابه أو نكتة! ثم يغنى ويتوقف ليمازح القوم ويضحك، وهكذا حتى الصباح، وتعجبت واعتقدت أن خبر انتحار «يعقوب» واختفاء «إحسان» كذب فى كذب، وملت على أذن بعض أصحابنا، وسألته فى الأمر، فهمس لى مؤكداً هذين النبأين! قلت وكيف يبدو الشيخ بهذا المرح، وكأن شيئا لم يحدث؟! فقال لى الصديق: أنت لا تعرف إيمان الشيخ. إن فى قلبه إيمان الأولياء. فهو لا يحزنه حدث من أحداث الدنيا، ما دامت هذه هى مشيئة الله!. وكان على تواضعه الجم شديد الكبرياء، وأذكر أنه كان فى ضائقة مالية شديدة وأبلغوه بأن مدير استديو مصر- وهو يومئذ من أصهار الأسرة المالكة- يدعوه لتلحين خمس أغنيات لأحد الأفلام. فقال: «يا فرج الله» وذهب وقابل المدير الذى سأله عن أجر تلحين الأغنية، فقال له خمسمائة جنيه. فشهق المدير واعترض قائلا: «أنا مدير هذا الاستديو كله ولا يصل مرتبى لهذا المبلغ». وسرح المدير قليلا وقال: «سأعطيك مائة جنيه عن كل لحن». نهض الشيخ وقال ضاحكا: «مادام إنت مدير الاستديو.. ابقى لحنهم إنت». وخرج الشيخ دون أن يصافحه! خرج وليس فى جيبه أجرة التاكسى.. وركب الترام.
وفى حوار للشيخ زكريا فى أخريات حياته أدلى بإجابة مهمة تختصر منهجه الفنى، فقد سأله المحاور عن رأيه فى هذه الموجة من الألحان الغربية التى تخرج إلى السوق على أنها تجديد فى التلحين. فأجاب قائلا وهو ثائر: «إن هذا الذى يسمونه تجديداً فى الموسيقى هو فى الواقع قضاء على روحنا الشرقية الأصيلة، إن الموسيقى لم تعد فى هذه الأيام إلا متاجرة بعواطف المستمعين، والألحان التى يقال إنها مجددة هى التى تهدم الذوق الفنى الشرقى، أما أنا فلن أهبط بفنى إلى مستوى المتاجرة، سأظل على ما أنا عليه، أعطى لحناً قوياً واحداً فى العام، وأصبه فى حنجرة صافية تحسن تأديته، ثم آوى إلى نفسى، وأنا فى اطمئنان إلى أننى أديت واجبى».
عليك رحمة الله أيها الفنان الكبير.. وعذراً للقارئ الكريم فقد وعدته بحلقة عن «بيرم والشيخ زكريا» لكن أخذنا الكلام. وبإذن الله قريبا سأفى بوعدى.