فضائح ومساخر امتحانات الثانوية العامة تتوالى علينا منذ صباح الأحد.. فيما المتحدث الرسمي لوزارة التعليم يستبق التحقيقات، تنجيماً وضرباً للودع، بإلقاء اللائمة على جماعة الإخوان المسلمين وتحميلها مسؤولية تسريب «نموذج اجابات مادة التربية الدينية» قبيل انعقاد الامتحان، مع أن النموذج المُسَرَّب مكانه هو مظروف مغلق بإحكام، مختوماً بالشمع الأحمر، ومُودع بغرفة داخل مقر «كنترول الثانوية العامة»، تحت حراسة مُشددة، وإجراءات تأمين صارمة تشمل تفتيش المترددين عليه، وتمنع وصول الغرباء إليه، وتحفظ الأوراق الامتحانية من الوقوع بيد أي عابث.. لكنه الاستهتار واللامبالاة، والإهمال الكارثي الضارب بجذوره في المؤسسة التعليمية التي صارت مادة للتندر والسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي وبين العامة.. إذا كان الأمر كذلك.. فهل الواجب علينا التصفيق لوزارة التعليم على اكتشافها العظيم، بأن الإخوان وراء هذه التسريبات بهدف إسقاط الدولة إلى آخر هذه الاسطوانة المثيرة للغثيان بحكم تكرارها الممل؟.. ليكن.. إذا سلمنا جدلاً بهذه الفرضية، وهي ليست مستبعدة.. فهل هذا يعفي الوزير ومساعديه من المسؤولية؟، وهل المطلوب من الإخوان إذا اتيحت لهم مثل هذه الفرصة أن يتركوها تّمُر دون اغتنامها؟، وهل ينتظر عاقل أن يتطوعوا لتنبيه الوزير ورجاله إلى مواطن الضعف والإهمال وأن يتستروا عليهم؟، فهل سمعتم يا قراء عن خصم لدود يتطوع بمساعدة عدوه على هذا النحو؟.. أم أن الطبيعي والمنطقي هو استغلال الخصم لإهمال وخيبة وتقصير خصمه؟.. مع ملاحظة أننا بصدد جريمة فساد جنائية، وليس مجرد إهمال واستهتار من أشخاص ليسوا على قدر مناصبهم.
من زاوية أخرى.. فإن تسرب الامتحانات والغش الجماعي، يهدر قيمة المدرسة ودورها التربوي.. إذ المعلوم أن بين طلابنا مستقبلاً الطبيب والمهندس والقاضي والمعلم والمحامي والضابط والصحفي، فإذا كان لدينا طالب «مجتهد» استغل فرصة الغش المتاحة بإغراء الدرجات الأعلى سبيلاً للكلية التي يرغبها، وكان له ما أراد.. الطبيعي أنه اكتسب قيمة رديئة وسلوكاً معيباً وهو «الغش»، الذي لن يتوقف على الامتحانات، بل سيمارسه في مهنته لاحقاً، وفي كافة جوانب حياته مكتسباً منظومة قيم أخرى أكثر رداءة، على شاكلة الكذب والخداع ومبدأ «نفسي وليهلك الجميع من بعدي» وهكذا، والنتيجة ما نراه من غش للأغذية والأدوية وسرقة وإهمال وارتشاء وقتل وغيرها من الجرائم التي يرتكبها أشخاص أصحاب مهن راقية ومكانة عليا بالسلم الاجتماعي.. على الجانب الآخر.. ليكن لدينا طالب «مجتهد» أيضاً، وأمامه ومن حوله الغش والتسريب، لكنه تربى في بيته، على أن الغش سلوك مُحتقر ومرفوض، وعليه.. فإنه لم يشارك غشاً.. ثم كانت النتيجة هي تفوق زميله «المهمل» الذي لم يبذل جهداً يذكر في دروسه.. هنا لابد أن يُحبط «المجتهد» ويُصيبه القهر، و«غالباً» يعاني الشعور بالندم بقية عمره، على تفويت فرصة كانت كفيلة بتحويل مسار حياته إلى الأحسن، وستتراجع القيم التي تربي عليها، ويتحول رويداً رويداً بعد صراع نفسي إلى الانتهازية واستغلال الفرص واللامبالاة والاستعداد لبيع أي شىء بمقابل، وفي كل الأحوال فإن قيمة الانتماء تتآكل في النفس، وتصل الرسالة للجميع (المجتهد والمهمل والغشاش)، بأنه لا داعى للتعب والاجتهاد والعمل.. فإن الغش والكذب والانتهازية هي الأنفع والأكسب.. وهذا هو مكمن الخطر.. إذ إن المدرسة بدلاً من تربية أبنائنا على القيم السامية، فإنها تحولت بهم إلى أردأ وأسوأ القيم والأخلاق.
إذا كان نظامنا التعليمي منهاراً.. ولا أمل في إصلاحه.. فلنحفظ لطلابنا النابهين نتاج جهدهم وعرقهم وسهر الليالي.. فليس من العدل مساواتهم بالغشاشين، حتى لا تشيع السلوكيات الرديئة بأكثر مما هي شائعة.. ومن الرشد ألا تعاند الحكومة وتسارع ليس إلى إقالة الوزير ومساعديه المتسببين في هذه التسريبات، فحسب.. بل محاسبتهم وإنزال أشد العقاب عليهم عن هذا الإهمال الجسيم والفساد وسيل التصريحات الكاذبة التي صدعونا بها عن الوسائل التكنولوجية المتقدمة لمنع الغش الإليكتروني وضبط العملية الامتحانية، سيما وأن التسريبات والغش الإليكتروني يتكرر وليس جديداً.
نسأل الله السلامة لمصر.
[email protected]