عقب المحاكمة التي جرت يوم 20 فبراير عام 1968 لقادة سلاح الطيران المعزولين، على خلفية هزيمة 1967، خرجت مظاهرة من جامعة القاهرة تضم نحو 1000 طالب، احتجاجاً على هزلية الأحكام، ووصلت إلى مجلس الأمة.. أطل عليهم الراحل أنور السادات، رئيس البرلمان آنذاك، من نافذة مكتبه، مُرحباً بهم ومعتذراً بأن المكان لا يتسع لهم جميعا، وصعد 50 منهم، واستمع لهم السادات وتناقش معهم ووعدهم بنقل مطلبهم.. في المساء كان الفريق محمد فوزى، وزير الحربية قد أمر بإلغاء الأحكام، وإحالة القضية إلى محكمة عسكرية عليا أخرى.
وهكذا انفضت الأزمة، ولم يخرج لواءات الشرطة والجنرالات المتقاعدين على الشاشات ليطالبوا باعتقال هؤلاء «المتمردين» ولا اتهمهم أحد بمحاولة قلب نظام الحكم.. بل إن الرئيس جمال عبدالناصر اختار الدكتور محمد حلمي مراد المُقرب منهم وزيرا للتعليم بعد شهر من هذه المظاهرة.. هكذا السياسة تسعى إلى تفكيك الأزمات.. بينما نعيش الآن أجواء تحريض لاتتوقف ضد الشباب المخالفين في الرأي، وضد كل رأي لا يعجب الموالين للنظام الحاكم، وكأننا يجب أن نكون نسخة بشرية واحدة مع أن هذا مخالف لطبيعة الخلق والكون القائمة على التنوع والاختلاف.
ففي اطلالتة البهية على فضائية العاصمة، مساء الأحد الفائت، أتحفنا اللواء مجدي البسيوني، مساعد وزير الداخلية الأسبق، الموصوف بـ«الخبير الأمني» برأيه في المشهد السياسي، قائلاً: «لو كان الأمر بيدي هعلن حالة الطوارئ ومش هستنى حكم محكمة وهعتقل كل المعارضين، ولا تحدثوني عن حقوق الإنسان».. لم يكن هذا الرأي الشخصي لـ«البسيوني» ليزعجنا كونه بالمعاش، لولا أمران يفرضان علينا الانشغال بمثل هذه الآراء.. إذ يمكن أن نستيقظ غداً أو بعده، على اختياره وزيراً للداخلية لتنفيذ رؤيته هذه، وثانيهما: لو عدنا للوراء قبل 20 يوما تقريباً، نسترجع مضمون المذكرة المُسَّربة بطريق الخطأ، المتضمنة «خطة وزارة الداخلية» للتعامل إعلامياً مع أزمة اقتحام نقابة الصحفيين، لوجدنا تركيزاً على الاستعانة بلواءات الشرطة السابقين للترويج في الصحف والفضائيات لسياسات ومواقف الوزارة، وهو ما حدث فعلاً بالظهور المتوالي للواء فاروق المقرحي، مساعد الوزير سابقا، وغيره من الجنرالات، وجهودهم لتشويه الصحافة والصحفيين، وهاهم ينتقلون لشيطنة المعارضين، على خلفية اعتقال ومحاكمة مئات الشباب الرافضين لضم جزيرتي صنافير وتيران للسعودية.
بما يعني أن جناب اللواء البسيوني لا ينطق عن الهوى وإنما يروج لرؤية «الداخلية»، وكأن الأخيرة تريد أو يريد هو التسويق لفكرة مفادها، أنه بدلاً من صداع «تلفيق» غالبية محاضر الضبط والتحريات، ثم دوشة التحقيقات والمحاكمات ووجع الدماغ.. فإن الاعتقال وإلقاء هؤلاء «المشاغبين» بلا محاكمة في غياهب السجون والمعتقلات ومعسكرات الامن المركزي، وإحكام غلق الزنازين والنوافذ عليهم- هو الحل الأمثل حمايةً للوطن والمواطنين من شرورهم، ناسياً والذين يقفون في صفه أو خلفه أن «الدستور» الذي أقسم الرئيس وأعضاء الحكومة والبرلمان على احترامه، يحدد شروطاً وضوابط لإعلان حالة الطوارئ، ويحفظ للمواطن المصري «حقوق الإنسان» المقررة بالمواثيق الدولية.. الأسوأ هو حالة الخصام، بل العداء الشديد مع شبابنا، بحيث امتلأت بهم السجون، وبينهم الآلاف عقاباً لهم على مجرد إبداء آراء هنا أو هناك، مثل «بوست هايف» على فيس بوك، أو أغنية تافهة (فرقة أولاد الشوارع)، أو فيديو لأطفال يلهون في حالة هزل (مسيحيون أربعة في محافظة المنيا)، وغيرهم لا يزال ينتظر وبينهم عشرات الأطفال.. إن استمرار حالة التحريض التي يمارسها أمثال اللواء البسيوني، وما يروجون له من سياسات حمقاء، لن يفيد البلاد ولن تجني من ورائها سوى المزيد من الاحتقان والقلق والغضب في صفوف الشباب وذووهم، وهم كُثر، فضلاً عن السمعة السيئة التي تلاحقنا دوليا في مجال الحريات وحقوق الإنسان، وما قد تجلبه علينا من مخاطر في قابل الأيام.
أفيقوا يرحمكم الله، وافتحوا أبواب الزنازين ونوافذ الحرية، وأطلقوا سراح شبابنا.. فهم غد هذه الأمة ومستقبلها المُشرق.
نسأل الله السلامة لمصر.