«أبدا يا ولادي..عُمر دي ما كانت أخلاق مصر.. فين أخلاق القرية.. ميت أبوالكوم الكبيرة».. هكذا كان الرئيس الراحل أنور السادات يردد في خُطبه كلما أراد انتفاد سلوك معيب أو الرد على منتقديه، توظيفاً سياسياً منه للقيم الريفية المحمودة، على سند أنه «كبير العائلة»، وكان يحلو له الاحتفال سنوياً بيوم ميلاده (25 ديسمبر)، في داره بـ«ميت أبوالكوم» المنوفية، ويظهر بها على التليفزيون المصري، مع الإعلامية همت مصطفى، مخاطباً إياها: «شوفي يا بنتي يا همت»، مرتدياً عباءة فاخرة على عادة كبار العائلات، تأكيداً للصورة التي يريدها لنفسه، كون الأخلاق الريفية تتميز على زمانه بتوقير الصغير للكبير، والتراحم والمودة والمروءة والشهامة، وعلو مكانة المرأة.
من المفارقات أن السادات نفسه فتحَ الباب واسعا للإخوان والسلفيين ينشرون أفكارهم وقيمهم تهميشاً لما عداها، بالمدارس والجامعات والمساجد، في ظل دستور 1971 وتعديلاته عام 1980، الذي جعل الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.. بما أدى لميلاد المشاحنات الطائفية التي تحرقنا بنارها حتى اليوم وربما غداً.. ذلك أن بواكير هذا التشاحن الطائفي ظهرت في عهده، بداية بحرق كنيسة الخانكة ((1972، وفتنة الزاوية الحمراء الشهيرة (يونيو (1981، التي قتل فيها العشرات، قبل رحيله بأشهُر قليلة، وانتهاء بـ«نيران فتنة الكرم» بمحافظة المنيا، انتحاراً لـ«أخلاق القرية» التي سعى السادات لإعلائها،، خروجاً على قوله تعالي في كتابه العزيز: «ولاتزر وازرة وزر أخرى».. ناهيك عن السؤال المنطقي.. لو كانت العلاقة الآثمة موضوع الإشاعة، مع واحد من المسلمين.. فهل ساعتها تكون عادي يعني؟.. غني عن البيان أن «السلفيين» المحظوظين برعاية السادات والنظم الحاكمة من بعده، لعبوا دور البطولة في «موقعة الكرم»، نتاجاً طبيعياً لشعورهم بأنهم مدَّللون وسيفلتون من العقاب، ومدفوعين بنظرتهم المرضية للمرأة على أنها عورة ومجرد وعاء لماء الرجل أو شهوته، واعتبار الزوجة رهينة عقد امتلاك للزوج، وانشغالهم بالنصف الأسفل من جسدها، بما يؤكد أن «عقول» نسبة لا يستهان بها من مشايخهم ربما تسكن بين أفخاذهم، فضلاً عن سعيهم الدؤوب لامتلاك حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتطبيق شرع الله بـ«أياديهم»، بغض النظر عن تشوش وفساد «معاني» المعروف والمُنكر والشرع، وما إذا كانت مطابقة لصحيح الدين أم لا، وكذا رفضهم للمسيحيين، وكل من يخالف منهجهم، ولو كان مُسلماً، وخير شاهد على هذه الرؤى الفاسدة موقع «أنا السلفي»، وما يحويه من فتاوي الدكتور ياسر برهامي مرجعهم الأعلى وحبرُهم الأعظم.
إن احتشاد نحو 300 شخص من «الذكور» أشباه الرجال في «الكرم» على هذا الفعل المُشين، يعني من الناحية النفسية، نوعاً من السادية الجماعية.. إذ السادية هي التلذذ والاستمتاع بتعذيب الآخرين، نفسياً أو بدنياً أو جنسياً، وهذا متوفر في الحالة الماثلة، فالهاجس الجنسي شاغل دوما للسلفيين، و«التعرية» فعل جنسي بالأساس، كما أن مضمون الإشاعة المفجرة للأحداث مرتبط بهذا السلوك الذي اتخذ شكلاً هستيرياً، بانتقال السادية للحشد كما تنتقل العدوى، ويمكننا اعتماداً على دراسات علماء الاتصال، بدءاً بالفرنسي جوستاف لوبان 1841- 1931))، مروراً بعالم الاجتماع الأمريكي هربرت بلومر (1900- 1987)، استنتاج أننا بصدد «حشد عدواني» جرت إثارته عاطفياً ودينياً بالشائعة إياها، وتغييب عقول المشاركين وأخلاقهم وضمائرهم، وتحريكهم لهذا لسلوك السادي الصادم لفرط بشاعته وشذوذه، وهي أمور كلها يجيدها السلفيون كما الإخوان.. رحم الله السادات وأخلاق القرية و«الدولة المدنية»، إن لم تتحرك الحكومة وتُشكِل فريقاً علميا معتبراً، يضع منهجاً سليماً للخروج من هذا المأزق المتكرر، الذي يمكن أن يوقع بالدولة في المهالك، وإذا كنا نتحدث ليل نهار عن المؤامرات الكونية، وإذا كان معظم النار من مستصغر الشرر.. فإن ترك الملف الطائفي مفتوحاً دون علاج حاسم يعني أننا نتآمر على أنفسنا.
نسأل الله السلامة لمصر.