ظلت علاقتى بالعالم الدكتور مصطفى محمود، على مدى سنوات طويلة، مجرد علاقة عابرة، لمشاهد يدمن متابعة برنامجه «العلم والإيمان»، إلى أن حانت «ساعة الصفر»، فى عام 1998، حين كنت أسير على وجهى هائماً، أتصعلك فى شوارع حى المهندسين، على سبيل «تسلية صيامى»، باحثاً عن خطة لسد جوعى فى الشهر الكريم، حيث كنت آنذاك طالبا فى كلية الحقوق بجامعة القاهرة، ولا يكفى ما كان يرسله لى والدى من نقود شهرياً أسبوعا واحدا.
وفجأة تنشق الأرض عن 3 متسولات رقيقات، يقول عنهن غِلاظُ القلوب إنهن «فتيات شوارع»، اقتربن منى وأنا جالس على مقعد داخل حديقة، وسط الميدان، وسألتنى إحداهن عن مكان مائدة مصطفى محمود، وحين اكتشفن جهلى بـ«المكان الموعود»، تركننى وكأنى «كلب سكك»، تحت الشمس الحارقة، وجلسن فى مكانى، الذى تركته لهن، بمجرد اقترابهن، ووقفت، على سبيل الأدب، وجلسن بدلاً منى فى المكان الوحيد الذى كانت شجرة تظلله، وتحمينى من الحر، وتبعدنى عن وقاحة نظرات العابرين، الذين كانوا يلقوننى بنظرات كأنها «دبش»، ولسان حالهم يقول: «بتعمل إيه يابن المحروقة» فى جنينة، تحت نار الشمس الحارقة».
جلست على النجيلة المجاورة لهن، وكان صوتهن العالى كفيلا بأن يكشف حجم المؤامرة، التى دبرنها، وأعددن العدة لها، وتتلخص فى الذهاب عصراً إلى مسجد مصطفى محمود، والوقوف فى طابور طويل، وكله بالدور، للحصول على وجبة طعام متكاملة، داخل كرتونة، تمنحها إدارة المسجد إلى كل من فى الطابور، بشرط أن يصل الشباك قبل أذان المغرب.
وتلخصت خطة «بنات آوى ولاد الذين»، فى الوقوف فى الدور، ثم الحصول على العلبة التى تحتوى على الدجاج والأرز والطبيخ وشىء من التمر، ثم الانصراف فى أمان الله، وتصريف العلب فى مكان آمن، تتولاه رابعتهن، حيث كنت أجلس، ثم العودة فى أمان الله إلى الطابور من جديد، والحصول على وجبة جديدة، وهكذا، بشرط أن يبدلن ملابسهن، كل مرة مع بعضهن، داخل دورات المياه بالمسجد، على سبيل «التمويه على العاملين».
لم أفكر فى الأمر كثيراً، وعقدت العزم على أن أحصل لنفسى على دور فى الطابور الطويل، الذى ما إن رأيته حتى عدت أدراجى، مفضلاً الجوع على الوقوف أكثر من ساعة، فى طابور «أطول من السنة السودا»، حيث أوله أمام الشباك، وآخره فى شارع جامعة الدول العربية، وضعت يدى فى جيوبى، وتجرعت الحسرة، بسبب حالة الفلس المزمن، وكدت أن ألطم على وجهى، بسبب تركى الطابور، بعد أن كان أمامى نحو 200 فقط من الغلابة الذين كان مشهدهم المهيب يذكرنى بـ«غزو الهكسوس»، وروضت نفسى من جديد، وابتلعت الصدمة، ووقفت ذليلاً مكسور الجناحين، أقصى ما أتمناه أن أصل الشباك، قبل أذان المغرب، ولأننى «فقرى»، أباً عن جد، وأوشكت على أن أحصل على رخصة رسمى، بأننى «قليل البخت بلاقى العضم فى الجبنة»، رفع المؤذن الأذان، ورأيت حينها كأن طيرا أبابيل، أحاط بى، وجردنى من كل حتة لحمة، وكل أمل كاذب، قبل أن أصل الشباك بـ«نفرين».
كان أمامى خياران، إما أن أتوسل إلى مسؤول التوزيع فى المسجد، الذى كنت أشعر أنه يملك خزائن الكون، وإما أن أخطف علبة وجبات وأجرى، بعد أن تذكرت أن «الجرى نص الجدعنة»، وإما الخيار الأكثر مرارة، وهو أن أعود أدراجى، حيث «الجنينة العارية»، وهناك وجدت «بنات الذين»، يجلسن أمام نحو 20 علبة، ولولا حيائى، لتوسلت إلى إحداهن أن تمنحنى، ولو عينة من أحدى العلب، لكن خجلى حال دون أن أضع كرامتى بين أيديهن، لكن إحداهن اقتربت منى، ومنحتنى «ورك فرخة»، وقالت لى «رمضان كريم»، حينها فقط تمنيت أحد شيئين.. إما أن تنشق الأرض لتبلعنى حياءً، وإما أن تمنحنى إحداهن طبق سلطة، بجوار قطعة الدجاج.