رغم «معارك اللحمة والتمر»، وصراعات «الأرز والطبيخ»، و«مشاجرات الكراسى»، على موائد الرحمن، أحل ضيفاً أحياناً ثقيلا، وأحياناً أخرى خفيف الظل، على موائد الرحمن، كل رمضان، حتى أصبح لى فى كل مائدة صديق، وأحياناً «عدو»، بدءا من موائد الدقى والزمالك والمهندسين، حيث الخدمة «5 نجوم»، مروراً بمثيلاتها فى وسط البلد، التى تقدم وجبات «الطبقة المتوسطة»، وانتهاء بموائد المناطق الشعبية، التى يتحول حصولك فيها «على حتة لحمة تيك أواى»، أو كوب عصير «ع الماشى»، حلماً بعيد المنال.
ولأن الناس مقامات، وكل ابن آدم «عطاء»، كل بقدر استطاعته، يتفنن أهل البر فى تقديم أفضل «بروجرام»، على موائدهم، فهذا يختار سور نادى الصيد لإقامة مائدته، مع وضع لافتات فى الشوارع المحيطة، ترشدك إلى المائدة، وذاك يختار حديقة فيلته موقعاً لها، ويعين «بودى جاردات» على مدخلها للسماح لـ«وجهاء الغلابة»، فقط بالدخول، ومنع «الغلابة الكحيتى وممزقى الملابس والمشردين وأطفال الشوارع»، من الدخول بناء على تعليمات الباشا، الذى لو يملك إجبار عابرى السبيل على الدخول بملابس رسمية لفعلها، حفاظاً على «برستيج المائدة».
وأذكر ذات مرة، عام 1997 أن دعانى أحد أصدقاء الموائد القدامى، على الإفطار، على حساب الدكتور أحمد فتحى سرور، رئيس مجلس الشعب الأسبق، فى مائدته، أمام مسجد السيدة زينب، وأخذ يعدد لى مفاتنها ومزاياها وسحرها حتى وقعت فى غرامها من قبل «أول معلقة»، ورفضت بشدة، وقلت له إننى لا أبيع أصدقائى على موائد بولاق والسبتية وهدى شعراوى وقلعة الكبش، لحضور مائدة ضيوفها «برجوازيون»، وصممت على الأمر، وأغلقت باب النقاش فى هذا الأمر، وما أن نال صديقى «رفعت» (علقة ساخنة)، على يد أحد عمال مائدة فى «رملة بولاق»، بسبب إخفائه «اللحمة» فى جيبه، وادعائه عدم وجود لحمة فى طبق الأرز، المغطى برغيف خبز، وتكرار فعلته أكثر من مرة، حتى كشفه أحدهم، حتى قررت مقاطعة موائد «المساكين»، فى الأحياء الشعبية، والانتقال إلى حياة «البهوات»، حيث موائد الـ5 نجوم.
وفى اليوم الموعود، تواعدنا بالقرب من «الطاهرة»، وانتابنى الخوف بسبب «الثكنة العسكرية» فى الميدان، حيث انتشر الأمن المركزى، فى محيط المائدة، التى تولى تأمين مقدمتها ضابط برتبة عميد، علمت فيما بعد أنه مأمور قسم السيدة «ذات نفسه»، وحين حاولت العودة أقنعنى صديقى «إنهم ها ياخدونى اشتباه» بسبب ارتباكى، لأن حسهم الأمنى عال، فوضعت يدى فى جيبى الخاوى من الجنيهات، وسرت كالطاووس، وأخترع أحاديث بصوت عال، وأكرر اسم «سرور»، الذى حدثته بالأمس عن كيت وكيت، وأننى وعدته بزيارة مائدته، من باب الفضول، ليس إلا.
ولم يشفع لى الحديث عن «البيه المأمور»، فسألنا عن مهنتنا فقلت إننى طالب حقوق، وقال صديقى «الفقرى» إنه «مشغل رافعة»، وحين سأله يعنى إيه فقال له «عامل على ونش»، فابتسم ابتسامة صفراء وأشار إلى مجند، اصطحبنا إلى «ترابيزة»، بها عمال تراحيل، وحين تلفتت حولى وجدت «أفندية» على «ترابيزة» أخرى، وثالثة يجلس إليها «باشوات الغلابة»، الذين تشعر من سيماهم أنهم «بهوات»، حضروا لمجاملة صاحب المائدة.
والحق يقال، نسيت موائد الغلابة، وقعدة الفقراء، وطبيخ الأحياء «الياى» الشعبية، وصحبة الأصدقاء الفقريين، الذين تتلخص كل أحلامهم فى «حتة لحمة زيادة»، أو تناول الطعام بـ«سكينة معدن»، وليست بلاستيك.. نسيت نفسى وأنا أجد «سرفيس 5 نجوم، بيخدم عليك فيه جرسونات تفتح النفس»، وقررت أن أصبح زبوناً يومياً، لمائدة «علية القوم»، وتحولت بحكم العادة إلى وجه مألوف لـ«البيه المأمور»، حتى إننى أتبوأ مكانى المحدد من المائدة، دون توجيه من أحد.. راحت أيام «سرور»، وقررت العودة إلى موائد «وسط البلد»، حيث تكون أحيانا «الجيوب» وأحياناً أخرى «الشرابات»، ملاذاً آمناً للبعض لإخفاء قطعة لحم.