«برنسيسة» حقيقية أمامى مباشرة وكأننى دخلت فى أحد أفلام الزمن الجميل. نقلتنى طلتها ولكنتها وثقافتها إلى هذا العالم. ولم لا؟ فهى الحفيدة السابعة لمحمد على باشا، لكنها أيضاً الابنة الوحيدة التى على قيد الحياة لأحمد حسنين باشا «أسطورة القصر والصحراء» كما أحب أن أصفه وأحرص على تسجيله هنا فى هذه الحلقات.
لم أكن أعلم وأنا أزورها وبصحبتى زميلتى المصورة عزة فضالى ويقودنا الخبير البيئى والعلامة «محمود القيسونى» والذى يعود إليه الفضل فى إتمام هذا اللقاء، لم أكن أعلم أن «جيدة هانم» ابنة أحمد حسنين باشا هى ابنته من زوجته لطفية هانم ابنة شويكار هانم الزوجة الأولى للملك فؤاد قبل «نازلى».. ارتباك معلوماتى أحسست به وأنا جالس إلى السيدة الثمانينية الجميلة بشقتها البسيطة على نيل الزمالك- مولودة فى 1934- أى قبل مقتل والدها باثنى عشر عاماً. هذه المعلومات وتداخلها استدعيا منى أن أدون ملحوظاتى على الفور بأننى ينبغى أن أخوض فى تاريخ هذه المرحلة أكثر حتى يخرج هذا الموضوع دقيقاً.. وكان لى ذلك.
غير أن المفاجآت لم تنته فى هذا اللقاء، والتى - بالمعلومات - كانت السيدة الجميلة تتحدث.. أسألها فى محاور محدودة حول تاريخ والدها والمحطات الصعبة فى حياته. زواجه من الملكة نازلى وكيف استقبلت والدتها الأمر، وكيف كان شعورها وهى طفلة حيال ذلك، وكيف تعاملت معهم «نازلى» بعد مقتل والدها، وهل لدى العائلة رواية مختلفة حول ظروف حادث الوفاة وملابساته فوق كوبرى قصر النيل، وهل تتقاطع روايتهم مع الرواية السائدة أم لا.. غير أن مفاجآت أخرى شدتنى فى هذه التفاصيل عندما وصلت لرحلة والدها إلى محطة «الدفن».
كان محمود القيسونى- العاشق لأحمد حسنين باشا ولتاريخه وريادته لاكتشاف الصحراء والواحات الممتدة بطول الصحراء الغربية، وقد أخبرنى أن المهندس حسن فتحى- المعمارى العالمى الشهير وصاحب المدرسة الرائدة فى البناء- هو الذى صمم ونفذ ضريح أحمد حسنين باشا فى 1946 لكن «جيدة هانم» أضافت سبباً لذلك وهو أن حسن فتحى كان زوج شقيقة حسنين باشا وكان أيضا عاشقاً لسيرته وإنجازاته لذلك صمم الضريح عن حب.
فى هذه الحلقات، نخوض فى كل هذه التفاصيل وبالصور أيضاً، لكنى بعد أن حصلت على هذه المعلومات الجديدة فى جلسة واحدة، وقبل أن أقلب فى أرشيفى وفى أرشيف عائلة أحمد حسنين باشا والذى أخذت نسخة كاملة منه، قلت لنفسى لأختبر ما لدىّ من معلومات جديدة. فى يوم واحد اتصلت بالأستاذ صلاح عيسى والدكتور مصطفى الفقى والأستاذ صلاح دياب والدكتورة لطيفة سالم والأستاذ ماهر حسن لأختبر عندهم ما لدىّ من معلومات جديدة بشأن أحمد حسنين باشا.
لم يكن أحد منهم يعلم علاقة المصاهرة بين حسن فتحى وأحمد حسنين، بل لم يكونوا على علم بأن المعمارى الرائد هو الذى بنى ضريحه، واللافت أنهم شجعونى على تقديم هذه الحلقات وتوثيقها.
تحمست للفكرة ووجدتنى مدفوعاً فى أكثر من اتجاه، بحماس الصحفى وفطرته المنادية بسرعة الإنجاز لتقديم الحوار أو التحقيق وبمسؤولية «الباحث» الذى وجد نفسه فى قلب عالم ملىء بالوقائع والتواريخ والمتناقضات.
وهنا سألت نفسى، قبل أن يسألنى أحد، وقبل أن أقرأ فى تعليق قارئ للجريدة أو موقع «المصرى اليوم». ماذا ستضيف، وهل يستحق «الرجل» وتاريخه كل هذه الحلقات.. والأهم ما الجديد لديك؟!.
يشغلنى دائما فى عملى التوثيق، ويشغلنى أيضاً فكرة اقتحام شكل جديد من أشكال الكتابة الصحفية. وهنا أنا أجرب شكلاً يجمع كل الفنون الصحفية ممزوجا بشكل روائى. وهى هنا حبكة صحفية عن شخصية حقيقية ورائدة. قرأت فى فترة مبكرة من حياتى سيراً ذاتية لمشاهير، لكن أقرب هذه الأشكال للفكرة التى أريدها هنا هو رواية «العودة إلى المنفى» للروائى أبو المعاطى أبو النجا والتى كانت توثيقاً دقيقاً- وروائياً أيضا لرحلة السياسى والصحفى الرائد عبدالله النديم.
فى هذه الحلقات سأخوض فى مسيرة أحمد حسنين باشا بمراحلها المختلفة بشىء من التفصيل والثقة وإعادة الحياة لسيناريوهات ناقصة.. وفى القلب من ذلك سأعتمد إلى أن أسجل فى القلب من هذه الوقائع الرؤية العائلية لهذه الوقائع، ولن أغفل السباق التاريخى الحقيقى لكل واقعة حتى لو اختلفت أو كذبت رواية العائلة.
أعود لتقديم «جيدة هانم» والتى ستصحبنى هى وابنها «عزيز» طوال هذه الفترة.
«اسمى (جيدة) بتعطيش الجيم.. هذا الاسم اختاره أبى أحمد حسنين باشا فى مرحلة مبكرة من حياته، بل قبل أن يتعرف على والدتى بسنوات. كان فى رحلة فى الصحراء الغربية، ووقعت عيناه على طفلة شديدة الجمال، وعندما سألها عن اسمها قالت له (جيدة) فقال: بمجرد أن أرزق بطفلة سأسميها على اسمك».
جيدة هانم نقلت لى فى هذا اللقاء شجرة عائلتها لأمها وأبيها وسأكتبها هنا كما روته لى بشكل مقتضب وسأحرص على شرحه بشكل تفصيلى وخاصة من جهة والدتها لطفية هانم معتمدا على كتاب «نساء الأسرة العلوية» للباحثة مروة على حسين. وهو كتاب أوصتنى الدكتورة لطيفة سالم بالرجوع إليه.
أما ابنها عزيز فهو نجل الدكتور عبدالله محمود الأستاذ السابق فى هندسة القاهرة ابن شقيق محمد محمود باشا الذى شغل منصب رئيس الوزراء فى ثلاثينيات القرن الماضى.
ووفقاً لـ «جيدة» فهى ابنة لطفية ابنة شويكار ابنة إبراهيم فهمى بن أحمد رفعت بن إبراهيم باشا بن «محمد على» أى أنها الحفيدة السابعة لمحمد على.
أترك «جيدة» وأذهب مباشرة إلى والدها.. ولأسباب تعلقى به واقعة صحفية مهمة فى حياتى.
قبل 7 سنوات تقريباً، حصلت على دعوة كريمة لزيارة منطقة الجلف الكبير فى أقصى الجنوب الغربى لمصر.. ولبيت الدعوة. كنت ضمن وفد من «البيئة» و«السياحة» والقوات المسلحة لتحديد ملامح محمية «الجلف الكبير» تمهيداً لإدماجها ضمن محميات التراث العالمى التابعة لليونسكو، وهو مشروع، أعتقد أنه تعطل بفعل الانفلات والفوضى فى المنطقة خاصة أن جزءًا مهماً من هذه المحمية، تشمل ضمن حدودها جزءًا من جبل العوينات فى السودان وجزءًا كبيراً داخل الأراضى الليبية. وصلنا إلى هضبة «الجلف» بعد 5 أيام كاملة عن طريق سيارات الدفع الرباعى الحديثة وكنا فى قافلة ضخمة يقودها خبراء يستعينون بأجهزة الـ GPS المتصلة مباشرة بالأقمار الصناعية، كذلك استعنا بسائقين مهرة من أبناء الواحات البحرية وواحتى الفرافرة والداخلة، وهناك وعندما وقفت أمام كهوف الإنسان الأول وجمالها الهائل والأساطير المرسومة على جدرانها بألوان زاهية وهى تحكى ما يشبه قصة الخلق والبعث عجز عقلى عن التفكير، بل إننى كتبت فى حينها أن عقيدتى الدينية نفسها قابلة للتطور انطلاقاً من هذه النقطة. أحسست فى هذا المكان- وهو الأكثر جفافاً وقحولة فى الكرة الأرضية حيث لا مظهر للحياة تماماً، حتى للنباتات والحشرات- بأننى قريب من الله، نفس قربى من الله فى مكة المكرمة. عدت وأعددت 4 حلقات مصورة- التقطت معظم الصور لكهوف الإنسان الأول بنفسى- لكنى وبعد عامين تقريباً، قرأت للمرة الأولى كتاب «الواحات المفقودة» لأحمد حسنين باشا فوقع الكتاب على نفسى كالصاعقة. أولاً قرأت الكتاب فى ثلاثة أيام متصلة، لكنه بقى فى ذهنى طويلاً.. تخيلت الرحلة وبطلها ومن معه، وكيف عبروا الصحراء الغربية فى مصر وليبيا والسودان بحثاً عن واحات مفقودة وسط الصحراء لا يعرف عنها أحد شيئاً. فى 7 شهور على ظهور الإبل، أنا كتبت 4 صفحات لـ «المصرى اليوم» لكن الرجل ترك كتابه الذى هو أقرب للتحفة الفنية والعلمية حيث تمت ترجمته لمعظم اللغات الكبرى- علماً بأنه كتبه فى الأساس بالانجليزية- ومن خلاله تم تكريمه فى أنحاء أوروبا والولايات المتحدة، وهو ما سأشير إليه فى هذه الحلقات. لكن المهم فى هذا الأمر أن الرجل أصبح ملهمى أكثر خاصة أن هذه الاكتشافات سطرت معالم مهمة فى رسم المعرفة والجغرافيا والحضارة لمصر ولليبيا والسودان على السواء. الرجل اكتشف واحات جديدة وقبائل لم يسمع عنها أحد من قبل.
«أسطورة» أحمد حسنين باشا لا تنتهى عندى بالصحراء وبالسياسة وبعلاقته بالملك فاروق وبزواجه السرى من أمه «نازلى» ومناوشاته السياسية فى «القصر» مع «الوفد» و«الإنجليز».. لكنها بلا شك لها أكثر من عنوان إضافى أبرزها مسيرة الرجل كرياضى بارز، بل هو أول مصرى فى تاريخ الرياضة المصرية يشارك بشكل رسمى فى منافسات الألعاب الأوليمبية. حدث ذلك فى الدورة الأوليمبية بستوكهولم 1912.
وذلك بعد عامين فقط من تسجيل اسم مصر فى الأوليمبياد وذلك فى عام 1910، هو عندى «أسطورة» لأنه أول مصرى يحاول الوصول إلى مصر فى طائرة- لم تنجح المحاولة وسقطت الطائرة التى كانت تحمل اسم الأميرة «فائقة» ابنة الملك فؤاد.
وكان أحمد حسنين حينها يشغل منصب كبير الياوران.
انفجرت إحدى عجلات الطائرة والتى أحدثت تلفيات عديدة فى جوانبها.
سأتحدث عن رئاسته للنادى الأهلى فى مرحلة مهمة من تاريخنا الذى امتزجت فيه الرياضة بالسياسة والبحث عن الاستقلال.
هذه الحلقات حول أسطورة أحمد حسنين باشا ستنتهى بمصرعه والذى سأحاول تدقيق الواقعة وتحقيقها من جديد، وستنتهى أيضاً عند ضريحه والذى يراه معظمنا ذهاباً وإياباً على طريق صلاح سالم بالدراسة دون أن ندرى شيئاً عن صاحبه.. سأخوض فى وصف هذه التحفة المعمارية، وسأقدم صورة واحدة للضريح وسأترك التفاصيل للملفات، لكنكم لن تصدقوا من يسكنه ومن يديره الآن!