تقول القاعدة إن الصحافة الحقيقية يجب أن تقف على يسار السلطة – أي سلطة – فلا ترى منها إلا نواقصها وسلبياتها، ولا تسلط الضوء إلا على معايبها. ويبرر أصحاب هذا التوجه قاعدتهم الفقهية بأنها تحول الصحافة إلى أداة رقابية على السلطة لصالح الناس، وأنها إذا تخلت عن هذا الدور ستتحول إلى صحافة مستأنسة لا وظيفة لها، وأنها إذا نظرت بعين الرضا أو القبول أو حتى الاعتراف بإيجابيات السلطة ستتحول إلى جوقة للطبل والزمر.
ويدافع هؤلاء عن قصر الصحافة على هذا التوجه وحده بما يكفي كي يتصور الجميع أنه توجه مقدس، بديله الكفر بالصحافة نفسها، لكن الواقع غير ذلك على الرغم من ضراوة الدفاع عن شرف الوقوف على يسار السلطة.
وبالعودة إلى الأوليات نعرف أن وظيفة الصحافة تدور بين ثلاثة أهداف، أولها الإعلام وثانيها التعليم وثالثها الترفيه، ونعرف أن جرعة مناسبة من كل منها ضرورية لضبط الخلطة التي لا تصلح للاستهلاك الآدمي من الوجهة العقلية والوجدانية، إذا اقتصرت على عنصر واحد أو عنصرين فقط من هذه الخلطة.
فالصحافة الحقيقية عليها أن تخبر زبائنها من مستهلكي الخدمة الإعلامية بالمستجدات، وعليها أن تعلِّمهم شيئا من المعارف التي قد تكون متعلقة بهذه المستجدات أو لا تكون، وعليها أن تقدم لهم كل ذلك في إطار ممتع يحقق هدف الترفيه، أو أن تقدم لهم مواد ترفيهية مستقلة من مبتداها على ألا تخلو هذه المواد الترفيهية المستقلة من الإعلام والتعليم أيضا.
وإذا كان أهل الصحافة يقولون دائما إن هدفهم هو خدمة المواطن، فخدمة هذا المواطن الإعلامية والتعليمية معا تتضمن أن يعرف هذا المواطن «كل» ما يدور حوله، فإن لم تستطع الصحافة أن تقدم له هذا الكل، فعليها أن تقدم له قدر المستطاع.
لكن هذا الاحتياج للمعرفة – أو هذا الاستحقاق للمعرفة – يتعارض مع التزام الصحافة بمبدأ الوقوف على يسار السلطة، وهو ما يعني بالضرورة أنها ستحجب أعمال السلطة الإيجابية، أولا لأنها انتهجت التركيز على السلبيات، وثانيا لأنها تخشى أن يتهمها رفاق هذا التطرف بالتطبيل.
ونتيجة ذلك أن يحرم المواطن من التغطية الصحفية المناسبة لأعمال البناء والتشييد والصيانة والإنشاء التي تقوم بها الدولة في طول البلاد وعرضها، رغم أنه يستحق أن يعرف عن هذه الأعمال العامة بالتفصيل، لأنها محل اهتمام لديه من أكثر من ناحية.
فمن ناحية هي مشروعات تمس حياة المواطن اليومية، لأنها تتراوح بين مشروعات بنية تحتية، ومشروعات مرافق ومواصلات عامة أو مشروعات إنتاجية، وعليه فالمواطن يحتاج إلى معرفة موضوعية لتأثير هذه المشروعات على حياته، ومن ناحية أخرى يحتاج هذا المواطن أن يعرف تفاصيل هذه المشروعات لأنها تقام على النفقة العامة، وهي أموال المواطن التي يفترض أن يعرف كيف يجري إنفاقها.
الحقيقة هي أن الإعلام الذي يقف على يسار السلطة ويركز على سلبياتها يفترض أنه يحمي مصالح المواطن، وينشئ له الرأي العام المناسب لمواجهة هذه السلبيات، لكن هذا الإعلام يغفل مصلحة المواطن بشكل كبير من جانب آخر كما سلف التوضيح.
والحقيقة الأكثر وضوحا هي أن الإعلام – والصحافة من ضمنه - يميل بطبعه إلى القيام بدور نضالي في مواجهة السلطة يضفي عليه البريق الذي يهواه المناضلون، لكن هذا البريق عرض جانبي لا يعفي الإعلام من مهامه الأساسية، ولا يكفي وحده كقوة دفع تمنح الإعلام رفاهية بث الإحباط والشعور بالفشل وخيبة الأمل المتواصلة في نفس المواطن بدعوى حماية مصالحه.
وأدعو الإعلام المصري إلى انتهاج مبادئ الصحافة الإيجابية، ذلك التيار الجديد المغيب في الصحافة العالمية كلها، والذي أصبح ضرورة حيوية لبقاء الإعلام داخل خطوط خدمة مصالح المواطن المعرفية والتعليمية والترفيهية، مع عدم الإخلال بدور الصحافة الرقابي على طول هذه الخطوط التي خسرت عليها الكثير من صلتها بالمواطن الذي أصبح يرى أنه يستحق حرية الاختيار الفكري والشعوري والوجداني بين ما هو سلبي وما هو إيجابي.