x

إبراهيم الجارحي ربيع القومية المصرية (3) إبراهيم الجارحي الأحد 15-05-2016 21:51


ليس ثمة خصومة بين الدين في كنهه وذاته وخالص معتقده وبين القومية المصرية في فكرتها المجردة، لكن المؤسسات الدينية في كل زمان ومكان لها دائما مواقفها السياسية التي تسعى إلى احتكار الهوية، وإلى الانفراد ما استطاعت بالتوجيه المعنوي والشعوري وربما السياسي أيضا.

وتملك المؤسسة الدينية دائما الميزة النسبية الحاسمة في أي صراع سياسي تكون طرفا فيه، فالله في جانبها، وبالتالي فإن أي خصم للمؤسسة سيكون بالضرورة في جانب الشيطان، حتى لو كان الخلاف بينهما سياسيا بحتا.

فعندما انحازت الكنيسة الكاثوليكية لموسيليني في إيطاليا قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، كانت الفاشية اختيار الرب، وعندما قررت الكنيسة بعد الحرب دعم الغرب الديمقراطي في مواجهة الشيوعية في أولى مواجهات الحرب الباردة، كانت الديمقراطية اختيار الرب أيضا.

وكان بابا الكاثوليك يخطب في المناسبات العامة قبل الانتخابات التي كانت شبه محسومة لصالح اليسار قائلا إن الشيوعيين ضد المسيح، لينقلب الرأي العام الإيطالي ضد اليسار، وتصب الأصوات بأغلبية كاسحة لصالح الحزب الديمقراطي المسيحي.

والمؤسسة الدينية الإسلامية على وجه التحديد تكن عداء خالصا للقومية، لأي قومية، بل إنها تعتبر أي فكر قومي عدوانا على العقيدة وخروجا عليها، لأن الفكر السياسي للإسلاميين يفترض أن الإسلام وحدة قومية لها هويتها التي يجب أن تمحو كل ما عداها.

وبالطبع فإن النسخة السلفية أو الجهادية أو غيرها من النسخ المتشددة من الإسلام تعتبر معا نسخة قومية، لكنها ليست إسلامية بقدر ما هي تسعى إلى إحياء نمط العصور الوسطى في المنطقة التي هبطت فيها الرسالة، وهذه مسألة سياسية واجتماعية وليست مسألة دينية، لكن دخول الله في المعادلة سيجعل قيام أي قومية مستقلة دعوة للكفر.

وهنا يمكن لفت النظر إلى وجود النسخة المصرية من الإسلام، وهي نسخة يغلب عليها الحب والتسامح والاتساع للآخر، وتقوم على الأساس الروحي للعقيدة الإسلامية لا على الأساس الطقسي أو الشعائري لها، وهي في الحقيقة امتداد لتطور ديني حظي به المصريون منذ فجر التاريخ، ووصل بهم إلى عقيدة مرنة بسيطة متسامحة.

هذه النسخة العميقة ذاتها كانت الأنسب من غيرها لتصدير الدعوة الإسلامية نفسها إلى أنحاء العالم، ولهذه الطبيعة البسيطة السمحة للنسخة المصرية من الإسلام أصبح الأزهر الذي تطور عبر خليط بديع من الموروث الروحي المصري، والدمج بين المذهب الشيعي الذي كان مذهب الفاطميين الذين أنشأوا الأزهر، وبين المذهب السني.

بل إن هذه النسخة العميقة من الإيمان هي التي أعطت للعقيدة الروحية الأرثوذكسية المصرية رواجها في أنحاء الدنيا، لأنها تحمل نفس الموروث ذي الخلطة الإيمانية السحرية.

هكذا لا تتضارب العقيدة الدينية مع العقيدة الوطنية إلا في إطار المشروع السياسي للمؤسسات والجماعات الدينية، التي لا يمكن أن تحصل على مكاسب مشروعاتها السياسية إلا بإعدام الهويات المحلية والقضاء على الخصوصيات الحضارية والثقافية المميزة، والعودة بأبناء هذه القوميات إلى صفر اللحية المنفوشة والثياب المقصرة والثريد بمرق الضأن.

لا يختلف كثيرون على عالمية الدعوة الإسلامية، لكنني أختلف بشدة مع إدراج النمط البدوي وإحلاله محل القومية المصرية التي تطورت على مدار آلاف السنين واستوعبت الدين كعقيدة روحية، بل منحت منبع الدين حضارته المدنية المطلوبة، والمفروضة بحكم الدين الذي يلزمنا بالأخذ بأسباب التطور لا بمحاربتها باعتبارها مستحدثات وبدعا.

كما أنني أختلف بشدة – وربما بتطرف – مع محاولات محو الطبيعة المصرية للتدين لصالح الطبيعة البدوية المتشددة في رجعيتها، والتي تعتبر فانوس رمضان بدعة وضلالة، ولا تعتبر البندقية الآلية بدعة وضلالة، والتي تعتبر حلاوة المولد النبوي كفرا ولا تعتبر الإنترنت الذي تبث عليه مشاهد الذبح وقطع الأطراف رجسا من عمل الشيطان.

لقد اتسعت القومية المصرية للإسلام واستوعبته، وأضفت عليه روحها وتراثها الإيماني، وخلصته من المؤثرات البدوية الوحشية، لكنها تتعرض لحرب دعائية تستهدف القضاء على صفتها الحضارية لصالح مشروع سياسي ليس في الدين ما يدعمه، غير أن التاريخ لم يعرف حالة واحدة انتصرت فيها البدائية على التطور، ولا أحسب أن المستقبل سيعرف حالة من تلك الحالات.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية