وردتني تعليقات عديدة على المقالات الثلاث السابقة في هذه السلسلة يفيد محتواها بأن القومية العربية التي وصل خطابها إلى أوجه في عهد الحقبة الناصرية هي القومية الغالبة، وأن الحديث عن قومية مصرية مستقلة لن يكون غير محجم للدور المصري في المحيط العربي، وذهبت بعض التعليقات إلى أن الدعوة للقومية المصرية لم يأت في أي وقت، بل لن يأتي في أي وقت، إلا كرد فعل على غلبة القومية العربية وتفوقها.
كما جاءت بعض التعليقات على غرار الفقرة السابقة، لكن مع نقل الصراع إلى خانة الدولة الإسلامية العالمية التي لا تعلوها دولة، ولا يجوز أن تظهر في دار إسلامها أي صفة حضارية لأي قومية متميزة، لأنها ما دامت قد اختارت الإسلام دينا، فهي بالتبعية قد اختارت الثقافة العربية مطروحا منها أربعة عشر قرنا من الحضارة، لأن أي مميز حضاري هو بالضرورة بدعة، وكل بدعة من تلك تصب في ضلالة القومية، وكل قومية بأمر الله في النار.
وقد استبعدت الجدل الثاني من النقاش على اعتبار أن المقال السابق يرد على هذا الجدل ولا يثيره، وخصصت هذا المقال للكلام عن المواجهة بين القومية المصرية التي أدعو إلى إحيائها، والقومية العربية بنسختها الناصرية.
وقبل الدخول في لب هذا الجدل، دعوني أطرح سؤالا أبني عليه إجابتي كلها، وهو: لو كان الزعيم الراحل جمال عبدالناصر قد ولد في أي دولة عربية أخرى غير مصر، وصعد إلى الحكم فيها، ودعا إلى دعوته القومية العربية، ودعا إلى وحدته العربية التي دعا إليها، هل كان من الممكن أن يصل إلى ذات القدر من التأثير الذي وصل إليه جمال عبدالناصر المصري؟
لقد كان الزخم الحقيقي بداخل دعوة القومية العربية التي أطلقها عبدالناصر يرجع إلى أنه صادر عن مصر، فقد كان عبدالناصر نفسه ينادي من فوق جبل اسمه مصر، ولو كانت صيحته قد صدرت من تلة أو هضبة أدنى لما استمع إليه نفس العدد من الخلق، ولا استمعوا له بنفس الدرجة من اليقين والإيمان.
كان عبدالناصر يتكلم من فوق برج مشيد من أصوات أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ، ومن موسيقى محمد فوزي والموجي وبليغ والطويل وغيرهم، وأشعار صلاح جاهين وأمل دنقل والأبنودي وغيرهم، ومن سينما صلاح أبوسيف وأدب نجيب محفوظ ويوسف إدريس ومسرح المهندس ومدبولي، وغير ذلك كله من الأدوات التي غزا بها محيطه الإقليمي، وفرض عليه سطوته.
ففي يوم واحد من الأيام الذهبية للقومية العربية كانت الأناشيد الوطنية للعراق وسوريا وليبيا تنشد باللهجة العامية المصرية، وكانت بقية الأناشيد الوطنية في العالم العربي كله ما بين نتاج شاعر مصري أو ملحن مصري أو موزع مصري أو جميعهم معا.
الراجح عندي هو أن ما سمي بالقومية العربية في نهاية الخمسينيات وفي ستينيات القرن الماضي كانت أقرب إلى حالة اتساع للقومية المصرية، وحالة تمدد للشخصية المصرية إلى مستوى الغزو الثقافي والحضاري وشبه السياسي.
ولو كان هذا الكلام محل شك، خاصة لدى العروبيين المصريين، فإليهم هذه الحزمة من الأسئلة: إذا كانت دعوة القومية العربية قد صدرت من أي بلد آخر غير مصر، هل كانت هذه الدعوة ستلقى قبولهم؟ هل كان العروبيون المصريون سيقبلون أن تغنى أناشيدهم الوطنية باللهجة الشامية أو العراقية؟ هل كانت مشروعات الوحدة التي تكون عاصمتها بغداد أو الخرطوم ستلقى لديهم هوى أو قبولا؟
المسألة الناصرية كانت تتمحور حول القومية المصرية بشكل شبه خالص وحصري، ولا تتركز حول فكر الرجل الذي فاقه عروبيون غير مصريين كثيرا في أبواب الخطابة والخطاب والكاريزما، لكنها مصر التي جمعت كل ذلك معا لتحقق في الحالة قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
ما كلَّنا يَنفعُهُ لسانُهْ.. في الناسِ مَن يُنطقُه مَكانُهْ