x

أيمن الجندي الرومى شاعرا أيمن الجندي السبت 28-05-2016 21:56


مخيلة الرومى الشعرية تذهلنى بخصوبتها، وبرغم القرون التسعة التى تفصل بين عصرنا وعصره، وبرغم أن الترجمة من الفارسية للعربية تفقد النص الأصلى- لا محالة- موسيقاه الشعرية فإن روحه العذبة سرت فى أشعاره المترجمة، أشبه بعطر لا يزول..

■ ■ ■

جلال الدين الرومى نسيج وحده بين الشعراء. الوحيد الذى يضارعه هو الشاعر البنغالى «طاغور»، كلاهما بلا شك نهلا من نبع واحد، وكلاهما نفذا إلى الروح الكونية السارية. لكن طاغور ناسك روحانى، أما الرومى فيمتاز عنه بأنه يتخذ من تلك الأخوة الكونية سبيلا إلى العشق الإلهى:

«تعال.. تعال لا يهم من تكون

عابر سبيل؟ ناسك؟

أو عاشق للحياة تعال..

تعال وإن كنت قد أخللت بالتزامك

وعهدك ألف مرة..

فقط تعال لنتكلم عن الله..».

■ ■ ■

لقد دمعت عيونى عند المقطع الأخير وفهمت كنه العلاقة الروحية للتبريزى التى حيّرت القدماء. لم أكن مخطئا حين كتبت بالأمس «إنهما ببساطة تلاقيا فى الله». ألا تذكر الحلاج حين قال:

«ولا جلست إلى قوم أحدثهم/ إلا وأنت حديثى بين جلاسى».

فإذا كان من يعشق امرأة يوجه الحديث عنها إذا جلس بين خلانه فما بالك بحب الخالق عز وجل، أصل كل حب فى هذه الحياة!

■ ■ ■

الرومى كان بالفعل منذورا للحب الإلهى، بالضبط كما تنبأ التبريزى. وإنه ليتخذ من هذه الوحدة الكونية بابا إلى الله:

«قد يكون معشوقك فى هذه الدنيا بهيّا..

قد يكون حانيا..

لكن المعشوق الحق هو الذى يتلقاك حين تحين النهاية..

فاتحا لك ألف باب».

الرومى يعنى بالطبع لقاء الخالق فى الآخرة، حين يتلقاك بالرحمة والمغفرة. وقتها يكون هو سبحانه وتعالى هو المحبوب الحق.

■ ■ ■

وعذوبة أشعار الرومى تبلغ من الرقة حدا يدهش المرء.. اقرأ معى:

«حتى وإن تناءت أجسادنا

ستبقى نافذة بقلبى تطل عليك..

ومنها أمطرك بالرسائل الصامتة.

تماما كما يفعل القمر....».

■ ■ ■

وكثيرا ما يبدأ الرومى بصورة شعرية يطورها بالتدريج، ثم تأتى مفاجئة غير متوقعة فى النهاية:

«دع الحب يفعل بك ما يشاء.

دعه يحرقك تماما..

دعه يحيلك إلى رماد وتراب..

فمن روح هذا التراب تنبت الزهرة...»

انظر لتلك الصورة الشعرية، إنها بدأت بالحب يحرق المحب. يحوله إلى رماد وتراب. ثم تأتى المفاجأة حين تنبت الزهرة من تراب المحب، فنفهم النهاية السعيدة.

■ ■ ■

والرومى شديد التعاطف مع الحزن البشرى. لكنه يفتح نافذة على الأمل:

«همس لى الحبيب قائلا: أتعرف ما كل هذه الأحزان؟

إنها ليست سوى جدار بين بساتين..

فلا تبتئس..».

إننى لا أكاد أصدق روعة هذه الصورة الشعرية الأخيرة. من سوى الرومى يخطر على باله أن هذا الحزن الذى يحيط بالمرء الآن ليس أكثر من جدار يفصله عن بساتين الروح. وكل ما على الحزين أن يصبر ويتذرع بالأمل حتى ينفذ من هذا الجدار.

■ ■ ■

جزى الله التبريزى عنا خير الجزاء. لقد رأى بنور الله أن عالم الشريعة المُبجل يخفى خلف العلوم الدينية قلب عاشق مرهف الرقة. فما زال يتعهده بالمعارف الروحية، ويجلو قلب الرومى حتى صار كالمرآة. هذه المرآة، المجلوة بعناية، عكست لنا- رغم القرون المتطاولة- شمس المحبة الإلهية التى توهجت فى قلب شيخه التبريزى، العارف بالله.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية