x

أيمن الجندي الرسالة التى مررها نجيب محفوظ فى «الحرافيش» أيمن الجندي الأربعاء 25-05-2016 21:39


رواية الحرافيش من أهم أعمال نجيب محفوظ وأقربها إلى قلبه. لقد صرّح أنها- مع الثلاثية وليالى ألف ليلة- درة أعماله. نجيب محفوظ كان متأملا للتاريخ البشرى ومهموما بقضايا الإنسان الكبرى. لكنه لم يكن يفضل التعبير عن آرائه مباشرة من خلال المقالات الصريحة، وإنما يمررها من خلال رواياته الكبرى. ورواية «الحرافيش» ليست فحسب تأريخا لشقاء النوع الإنسانى، وإنما تفتح لنا سبل الخلاص، بقدر ما يُتاح لكائنات فانية سريعة العطب، مثل البشر، من خلاص.

■ ■ ■

فلنتذكر الخطوط العريضة للرواية. الحارة ملعب نجيب محفوظ المفضل والتى تمثل مصر. ثم الفتوات، العادلون منهم والظالمون، يمثلون النخبة الحاكمة. والحرافيش هم عامة الشعب المقهور العاجز عن تغيير واقعه بنفسه، لذلك يدمن حلم «المخلص»، أو الفتوة العادل الذى يقهر الأغنياء ويعيد للحرافيش حقوقهم المسلوبة.

التكية ترمز إلى الدين أو المطلق. هؤلاء الدراويش المنغمسون فى أفراحهم السماوية غير مبالين بشقاء الأرض. لاحظ أن أناشيدهم فارسية لا يفهمها أهل الحارة وإن كانوا يشعرون بعذوبتها. يرمز بها للغيب الذى لا يدرك البشر مراميه. وكلما اشتد بهم القهر جلسوا تحت شجرة التوت يصغون للأناشيد ويتساءلون: لماذا لا يتدخل الدراويش أبدا؟ لماذا تُبهم الأناشيد، وتبقى التكية مغلقة؟

■ ■ ■

العدل صفة استثنائية فى تاريخ الحارة. والفتوة العادل ما هو حدث نادر. «عاشور الناجى» الذى استغل قوته الخارقة فى نصرة الفقراء، جاء من بعده ابنه «شمس الدين» الذى تعرض للغواية، ولكنه حافظ على الاستقامة، ثم جاء ابنه «سليمان» الذى لم يستطع أن يحفظ العهد، واستنام لغواية المرأة والعيش الخفيض، وانتهى مشلولا لتعود الفتونة إلى الظلم وقهر الفقراء والجباية. وطيلة الأحقاب المتطاولة يحلم الحرافيش بالمُخلّص، الفتوة العادل الذى يعيد عهد عاشور الناجى وشمس الدين، ينصر الفقراء، وينصف الحرافيش. وحين تطاول العهد، وتعاقب الطغاة شعر الحرافيش باليأس، وكفوا عن حلم المُخلّص، وقبلوا بالأمر الواقع.

■ ■ ■

هناك أشياء جديرة بالنظر فى تلك الرواية. الأناشيد الأعجمية ظلت مستعصية على الفهم حتى للفتوات العادلين! وباب التكية لم يُفتح قط لعاشور الناجى ولشمس الدين! والشيخ الأكبر لم يخرج ولا مرة إلى الحارة! سوف نعرف السبب فى نهاية الرواية.

■ ■ ■

فى نهاية الرواية ظهر عاشور آخر من سلالة عاشور الناجى. عملاق مثل جده الأكبر. واستطاع أيضا أن يقهر الفتوة الطاغية. لكنه فعل شيئا آخر لم يفعله سواه. لقد سلّح الحرافيش بالنبابيت والمعرفة، ليكونوا حراسا على عهد الفتونة العادل. ولا يسمحون بعودتها بعد موته إلى عهد الطغيان. وقتها فقط حدثت المعجزة: انفتح باب التكية، وفهموا الأناشيد الأعجمية، وخرج الشيخ الأكبر مجلجلا بالدفوف والزغاريد، معلنا رضاه لأول مرة عن أحوال الحارة.

■ ■ ■

هذه هى الرسالة التى حاول الرجل الحكيم تمريرها. لا ينبغى الاعتماد على الحاكم العادل الذى يأتى مصادفة، وإنما على الشعب الذى يُلزم الحاكم بالاستقامة. التاريخ يؤيد رؤيته بشدة. لم يأت حاكم أعدل من «عمر بن عبدالعزيز»، ولكن انظر ماذا حدث بعد موته؟ عاد الوضع أسوأ مما كان، وتعاقب الطغاة الفاسدون.

يا شعب مصر، نجيب محفوظ الذى تأمل التاريخ طويلا مرّر لكم من خلال رواية «الحرافيش» الرسالة التالية: «لا تنتظروا (المُخلّص)، لأنكم أنتم (المُخلّص). لن يستقيم حكامكم إلا إذا أجبرتموهم على الاستقامة. وقتها فقط ترضى السماء عنكم، وتنفتح لكم أبواب التكية، وتفهمون معانى الأناشيد فتفوزون بالدنيا والآخرة».

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية