x

أيمن الجندي ما الذى نعرفه عن هذا العالم أيمن الجندي الأحد 22-05-2016 21:46


أحيانا أفكر، بينى وبين نفسى، أغمض عينىّ وأتذكر تلك القرية الساحلية التى اعتدت أن أقضى بها شهور الصيف من كل عام. أفكر فى الطيور التى استوطنت أشجارها الكثيفة.

أفكر فى هذه الطيور كثيرا هذه الأيام. كيف تقضى رحلة حياتها فى هذا المكان؟ ما الذى تعرفه عن هذا العالم؟

القرية شبه خالية فيما عدا شهور الصيف! ثمة بحر أزرق متلألئ صافٍ، وثمة شجر، ومسجد فى بداية القرية، وسوق مغلقة فى الشتاء، ثم بيوت متناثرة. لا شك أن طيور هذه الأنحاء تعتقد أن العالم مكان شبه خال، يندر فيه وجود البشر تقريبا. وبمقدار عجزهم عن معرفة أحوال البشر فإنهم خبيرون بتقلب الليل والنهار.

فى سواد الليل، فى الحلكة الشديدة التى تسبق الفجر، تكون الطيور نائمة على الغصون. ربما تستيقظ من آن لآخر، بالضبط كما ينتبه البشر، يلقون لمحة على السماء السوداء العميقة، فيشعرون بالخوف ويعودون إلى النوم.

وفى لحظة ما، والطيور جميعها نائمة، يتعالى صدح أول بلبل، وكأنما يرحب بالنهار. يخدش صمت الليل المبهم، فيكون نذيرا لاقتراب الفجر، فى اللحظة نفسها يتعالى صوت الأذان.

لا شك أن هذه الطيور جميعا، تعرف كلمات الأذان. ولأنها تسمعها من مسجد القرية، المفتوح برغم أنه لا يوجد روّاد إلا رجال الأمن، فإنها من جملة ما تعرفه أنها تميز كلمات مثل «الله أكبر» و«لا إله إلا الله».

بعدها بدقائق يتلون الأفق، من جهة الشرق، بالرمادى الشاحب، الذى يغزوه الضوء بالتدريج. ولأول مرة تنفض السماء عن وجهها لون السواد، وتكتسب اللون الأزرق البهى الناصع، مع لمسة حمراء يتضرج بها وجنتا الشفق.

وعندما يموت هذا الطير، بعد انتهاء رحلة حياته، فإن وعيه المطبوع يسجل شهادته لضمير الكون: «العالم جميل، قليل العدد، به الكثير من الألوان والقليل من الأصوات».

■ ■ ■

وأفكر أيضا وأنا مغمض العينين فى النمل كبير الحجم الذى ينتشر فى القرية الساحلية. يتخلل التراب، يزحف بين الزرع، يتهور أحيانا ويدخل البيوت. يتكاثر بسرعة مروعة، وكأنه يعرف أنه مخلوق قليل الشأن، سريع العطب، سهل القتل بسبب حجمه الكبير. وكلما ماتت نملة، سواء حتف أنفها، أو دهسا بالأقدام، فإنها لا شك تسجل شهادتها لضمير الكون: «الأشياء ضخمة والمسافات شاسعة والتراب فى كل مكان».

■ ■ ■

وماذا عن الكلب البلدى الذى يولد فى الأزقة، يطرده الرجال، ويلاحقه الأولاد بالطوب، ويقتات على القمامة الخالية معظم الأحيان مما يؤكل. وبرغم ذلك يحرص على العيش بغريزة لا تُقهر. وعندما يموت فى نهاية رحلته الأرضية فإنه يسجل شهادته فى ضمير الكون: «الحياة صعبة وقاسية ولا تخلو أيضا من المتع الصغيرة».

وماذا عن عصفور يعيش فوق أشجار المدينة؟ ماذا عن حوت لم ير إلا المحيط؟ ماذا عن كروان يعانق السماوات العالية ويجلجل كل مساء فى سماء المدينة؟ ماذا عن بطريق لم ير إلا الثلج؟ وأسد لم يشاهد إلا الفرائس؟ وزراف لم يأكل إلا غصون الأشجار؟

وماذا عن الإنسان وشهادته عن هذا العالم؟ جدى الذى رأى المسيح وجدى الذى عاصر المغول؟ جدى الذى عاش فى الجزر البعيدة؟ وهذا الذى لم يعرف إلا الزحام؟

مخلوقات لا حصر لها، لكل مخلوق منها قصة، ورؤية للكون وتجربة مع الحياة.

ويبقى خالق الكون، وحده لا شريك له، هو الوحيد الذى يعرف حقيقة هذا العالم الذى نعيشه ولا ندرى عنه إلا لمحات.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية