نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط»
خمسون دولاراً وبضعة سنتات أصبح سعر البرميل، مما يجعله أسعد أخبار هذا العام حتى الآن. فقد كانت التوقعات أن تستمر أسعاره فى الانحدار إلى العشرينيات من الدولارات، وتتسع الأزمة الاقتصادية حتى تهز كل المنطقة، لا الدول المصدرة للبترول فقط. وهذا الصعود الصامت للسعر لا يمنع أن ينتكس ويبدأ مرحلة جديدة من الآلام الاقتصادية، إنما أعادت الدولارات شيئاً من الروح للأسواق المتعبة.
ويعزى سبب الارتفاع الأخير إلى الاضطرابات فى مناطق النفط النيجيرية، واستمرار الإصلاحات فى بعض منشآت النفط فى منطقة الشرق الأوسط، التى اختارت التوقيت الأقل كلفة لوقفها، إضافة إلى استمرار المعارك فى محيط المناطق المنتجة فى ليبيا واليمن وسوريا والعراق.
سعر النفط الرخيص فى إجازة مؤقتة، وربما يعاود الهبوط من جديد، إن لم يكن هذا العام ففى السنوات القريبة، ونترك قراءة الاحتمالات لخبراء سوق البترول، لكن انعكاساته ومخاطره قضية تهمنا جميًعا، من مهتمين بالشأن السياسى إلى الاجتماعى. كابوس النفط الرخيص بدأ مع استخراج النفط الصخرى بكميات اقتصادية، وتزايد حصته المنافسة فى السوق إلى درجة جعلت من الولايات المتحدة دولة مصدرة للبترول! بسببه نشعر للمرة الأولى أننا نواجه تهديداً حقيقياً للواقع الذى تعودنا عليه منذ عقود، دول المنطقة تعتمد على النفط بوصفه سلعة شبه وحيدة، هو مصدر حياتها. وهذا لا يخص دول الخليج، بل يشمل دولاً مثل مصر، التى تعتمد على جزء كبير من مداخيلها على بيع النفط وتحويلات مواطنيها فى الدول النفطية، وليس على صادراتها الزراعية أو الصناعية كما يظن. وبقية الدول التى لا تملك نفطاً أيضاً تعيش جزئياً عليه، إما ببيع منتجاتها المختلفة لأسواق الدول النفطية، أو من تحويلات عمالتها، أو تعتمد على المساعدات المالية. والوضع أصعب للدول الخليجية، لأنها لا تملك خيارات بديلة فى الوقت الراهن. استيقظ حس الخوف عندها بسبب الهبوط المتسارع لأسعار البترول، ورافقه وقف لكثير من المشاريع الحكومية، وتباطؤ الدفع للشركات المتعاقدة، وقلصت المدفوعات للموظفين خارج مرتباتهم. كل هذا خلق مناخاً متشائماً من جانب، ومن جانب آخر جعل كثيرين يقبلون فكرة التغيير الاقتصادى، اقتناعاً بأن الوقت قد حان لتقليل الاعتماد على بيع النفط.
لكن يفترض أن عودة الروح لسوق النفط، بعد ارتفاع سعره، لا تعيدنا إلى إدمانه، فقد جلب الخوف من هبوط سعر البترول، والقلق من مستقبله فى الأشهر الستة الماضية، شعوراً جماعياً إيجابياً مؤيداً لمشروع إصلاح الاقتصاد وإعادة هيكلته. وهذا ما جعل ممكناً رفع أسعار الوقود والكهرباء والماء فى السعودية. لمسنا تفهماً كبيراً لحاجة الفطام عن سياسة الإعانات الكبيرة التى تنفق على السلع والخدمات، التى بلغت حجماً يهدد بغرق الحكومة، بل يهدد مستقبل الأجيال المقبلة التى لن تجد ما يكفيها حتى لو أصبحت أسعار النفط مرتفعة.
ولا أريد تكرار الحديث عن ضرورات التغيير، بما قد تعنيه من قسوة على شرائح واسعة من المواطنين الذين يواجهون لأول مرة استحقاقات الانتقال الاقتصادى، إنما من المهم أن نقول إن الأخبار البترولية السعيدة، إن دامت طويلاً، يفترض ألا توقف قطار التطوير الاقتصادى، آخذين فى الاعتبار أنها ليست سعيدة جداً، فسعر الخمسين وإلى السبعين دولاراً للبرميل لن يكفى لتسديد نفقات الحكومة، وسيستمر العجز المالى فى الميزانية، لكن ليس بتلك المسافة الكبيرة.
من الجانب السياسى، بكل أسف سيتسبب ارتفاع أسعار البترول فى زيادة تمويل الحروب فى المنطقة، ورفع وتيرة الاضطرابات، فالبترول نفسه سبب للصراع وممول للفوضى، ومن دون أن تكون هناك سياسة جماعية متأنية تعمل على تفادى الحروب، فإن كل ما تحصده دول المنطقة من دولارات البترول سيحترق فى حروب عبثية. هل يمكن إقناع دولة مثل إيران، التى لم تعرف فى تاريخها الحديث عصراً زاهراً واحداً، ولم تستفد قط من مواردها البترولية بسبب انشغالها فى الحروب؟ لا أدرى، لكن يفترض أن تفكر كذلك. لا قيمة لاتفاقها النووى، وانفتاحها الاقتصادى إن كانت عازمة على رفع إنفاقها على الحروب وتمويل ميليشيات المنطقة. ورغم ارتفاع سعر البترول وفتح كل أسواق العالم لها لتبيعه وتأخذ مقابله دولارات خضراء فإنه لن يكفيها إن لم تبدل فهمها للعالم من حولها.