نتقلب اليوم بأسى بين كلمات الموت والفراق والغبطة والسرور أيضا، فهؤلاء الذين قُهروا بخبر رحيل 66 نفساً على طائرة مصر للطيران هم أنفسهم من هللوا لفوز الأهلى على روما الإيطالى مع حبكة لم يفتها أن تذهب إلى السياسة «قضية ريجينى»، ولن ندخل فى مقارنة بين هذا وذاك، فالاهتمام هنا ينصب على هؤلاء البشر الذى يتفاعلون مع أخبار الموت بشروطهم، فهذه السنون علمتنا الكثير، فالدماء ليست كالدماء عند البعض، والأرواح ليست كالأرواح عند البعض، رغم أن الموت موت والبشر بشر، فهالات الحزن وأحاديث المآسى تحضر بنهم فى قصص وتغيب فى أخرى على خلفيات كثيرة تهجر الإنسانية، فقد قتل على بن أبى طالب يوما ما وراح فريق عريض يطوى الصفحة، وأخذوا يأكلون من صحن معاوية دونما اعتبار للدماء التى سالت، فقد قضى الأمر عند هؤلاء وأصبح للقتيل شيعته فهم أولى به من الجميع كما ظنوا.
جندى يستشهد على الحدود، وآخر فى العشرينيات يفقد حياته فى مهمة لتعقب اللصوص، وثالث يموت على طريق تاركا وراءه أسرة دون عائل، ورابع أنهى سنواته إهمال أو تقصير مسؤول، وخامس عذب حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.. وهكذا، هذه حكايات لم تعد تحرك فينا شيئاً، لأننا اعتدناها ولم تلمس ما كان يعتمل فى نفوسنا قبل سنوات، فقد كانت تلك الحكايا تسحقنا وتقتلنا بتفاصيلها قبلا، ولكن القسوة التى أورثتها سنوات الصراع بين الماضى والمستقبل سقطت على حاضرنا بنوع من التمييز جعل تلك اللحظات التى نرى فيها مأساة فراق أحباب أو استهداف غادر مجرد تعاطف مؤقت لا يتجاوز لحظات استقبال الخبر أو قراءة التفاصيل أو النظر فى عينى أم أو زوجة غادرهما ابن أو أخ أو زوج، دون النظر إلى العبرة، بل تسويق الأمر وتأويله وفق الهوى والغرض السياسى، فمن يموت على طائرة ليس كمن يموت فى لحظة للحفاظ على أمن الوطن، ومن مات فى لندن لم يكن مثل جندى غدر به ليلا فى سيناء ولم تجد قصته طريقا للنشر، فدفنت معه قصة بالقطع ستكون تفاصيلها أقسى مما نتصور لأنها فى النهاية نموذج عن الفراق وما يحمله من وجع وألم وحسرات.
من مات فقد مات وذهب إلى خالقه، ولكنه لدينا يحمل بأوزار السياسة والاستقطاب والانتماء والدين والعرق والطائفة كذلك، القسوة تخرج بين التفاصيل اليومية بشكل يفزعك، تذكروا مع نمط التعليقات عند مقتل أى شخص يختلف معك «مقتل حسن شحاتة القطب الشيعى» و«مقتل أقباط فى حرق كنيسة»، وهكذا فالأمثلة كثيرة لا تتعلق بالدين فحسب، بل تتعلق أحيانا بدرجة الفقر والغنى أيضا، الموت الذى لا يميز أخضعناه لعنصرية وأسقطنا عنه جلاله، فطفل الشوارع الذى يموت نراه رقما أزيل من المعادلة وفقيرا مات جائعا أو مريضا فقد أفناه الواقع وماذا بعد؟.
التعاطف مناسباتى، يتحكم فيه ظرف وطرح ونفوس مشوشة، قد تنسى أى شىء، وقد تتورط فى تبنى أفكار أو آراء، ولكن عند الموت تموت الأفكار وتنتهى الانتماءات، فتلك اللحظة لا ينبغى نسيان أنها حكمة من الخالق عن تلك القيامة التى يجب أن نتذكرها، فلا حساب لدينا عن شخص المفارق، ولا نملك تجاهه سوى ذكرى نستلهم منها حكمة ما عن الزوال، زوال كل شىء وأى شىء، الموت كما يقول عبدالرحمن منيف «لا يحفل بمشاعرنا هو فقط يؤدى مهمة ثم يرحل».
تدبر أن شروق يومك الأخير أو غروبه قد يحملان لك نهاية، فتذكر وقتها ماذا صنعت أمام أخبار الموت، فهل كنت إنسانا أم كنت عنصريا قاسيا لا يأبه لذلك الوجع، تنازلت عن إنسانيتك مثلما كان يفعل الغزاة سافكو الدماء.
علينا أن نفتح صناديق من نفارق حتى من لم نعرفهم، ففى تلك الأوراق التى ننبشها حكمة الحياة «لها بداية ولها نهاية أيضا وبينهما حكاية» أفضلها أن نعيشها بنبل الإنسانية، التقدير لا يأتى فقط بالموت، فهناك الكثير الذى يجب أن نقدره ونحن أحياء، وأولها ألا ننسى أننا بشر لابد أن نلتزم الرحمة ونكره القسوة.