x

محمد المخزنجي تميمة ألزهايمر محمد المخزنجي الأربعاء 18-05-2016 21:45


مدخل

«لا يتعرف على أولاده وإن كان عندما ترتمى ابنته الصغرى في حضنه يحرك ذراعه ليحيطها بآلية باردة وبطء شديد دون أن يضمها إليه. لا يعرف كيف يرتدى ملابسه. تنتابه نوبات ضيق مفاجئة فينفجر بصوت ليس لحيوان ولا للبشر. صوت يجهل الكلام «أأأأأأأأآتاااااااه هه. هااااااهه». لا يستقر في مكان ويأكل بآلية كأنه يأكل لشخص آخر غير مرئى. حصل على 22 درجة في اختبار «بلسد» لقياس درجة الخرف. عانى من صعوبة في معرفة اسمه الثلاثى ولم يتعرف على الوقت ولا التاريخ ولا المكان. فاقد التركيز. لم يستطع عد ثلاثة أرقام تنازليا. نتيجة الأشعة المقطعية وأشعة الرنين المغناطيسى وتصوير المخ المكبر رقميا للفصوص الجانبية والبطين الثالث تُظهر جميعها ضمورا متسارعا للمخ. كما أن أشعة بى إى تى تقطع بتراجع حاد في التمثيل الغذائى للحاء المخ. لا، لم يكن يشرب. لا يوجد تاريخ إصابة بجلطات مخ سابق لظهور الأعراض.

«كم عمره؟» سأل الطبيب الكبير نائبه الذي انتهى من تقديم الحالة، فأجاب قارئا من دفتر الدخول: «42 سنة؟». «مستحيل. مستحيل».. صرخ الطبيب الكبير في وجه النائب، وفى حضور الزوجة الملتاعة.

1-

في ظهيرة ذلك اليوم الفارق قبل أن يختفى بشهرين. راح الفنان التشكيلى ممدوح دفراوى يهيئ نفسه للقاء تليفزيونى سيحضره في المساء وعلى الهواء مباشرة. إنها مهمة مغرية وثقيلة في الوقت نفسه. تغمره بعدها رشقات توقير مدغدغ عندما يتعرف عليه من شاهدوا البرنامج الذي ظهر فيه. تزهو زوجته ويغبطه الأولاد والأقارب. ويبدو محبوبا أكثر. منحة ثمينة لا تخص روحه لكنها تسعد من يحبهم ويتحمل من أجلها ما لا يطيقه وما لم يتهيأ له من تبعاتها، فهو خجول. خجول برغم شهرته كرسام بارع ورحالة جرىء. روحه المُغامِرة لم تكف عن حمله لارتياد عوالم قصية يعايش ناسها ويستلهم لوحاته وتصميماته من نفحات فتونها وفنونهم التلقائية البكر. قبائل الماورى البولينزية في جزر المحيط الهادى. قبائل البانتو في صحراء كاليهارى بالجنوب الأفريقى. البشارية في أقاصى صحرائنا الشرقية. النوبيون فيما تبقى من قراهم بالجنوب. بدو سيناء في الشرق. والأمازيغ من حافة الواحات الغربية حتى شاطئ الأطلسى. وبرغم روحه المغامرة تلك وقدرته على معايشة كل هؤلاء الناس في بيئاتهم الفطرية بانفتاح تام إلا أنه ظل خجولا في حياة القاهرة. يكتنز حكايات مدهشة من ذكريات طوافه المبكر بكل تلك العوالم لكنه لا يجود بها إلا بين أصحابه القدامى ومن يألفهم. وبالكاد ينجح عدد نادر من مقدمى ومقدمات البرامج في انتزاع القليل من حكاياته تلك. لكنه قليل مدهش يحرصون عليه برغم إجهاده لهم وشروطه عسيرة التحقيق.

رسوم ثيمات الوشم لدى قبائل الماورى بجزر جنوب المحيط الهادى

يرفض الظهور في أيٍّ من برامج «التوك شو»، خاصة تلك التي يحضرها ضيوف متعددون وجمهور استديو. وصار الظهور الفردى أمام الكاميرا مع مذيع صديق أو مذيعة يألفها هو أقصى ما كان يحتمله. شرط أن يعرف مسبقا موضوع الحلقة التي سيظهر فيها أو يحدد هو الموضوع. ظهور يدفع فيه ثمنا باهظا من توتر أعصابه واشتعال ذهنه بما سيقوله وما لن يقوله. ثم يأتى السؤال المضنى عن مظهره الذي سيبدو به على الشاشة. ماذا يرتدى؟.. هو الذي لا يرتدى إلا ما يريحه من ملابس قطنية لا يشترط فيها إلا أن تكون نظيفة وفاتحة الألوان ويفضلها غير مكوية. ثم كيف ستكون تسريحة شعره؟.. وهو لا يذهب إلى أي حلاق ويحلق لنفسه منذ ربع قرن!

كانت زوجته قد انتهت من تجهيز الغداء في انتظار رجوع الأولاد من المدرسة والبنت الصغرى من الحضانة ودخلت غرفة النوم لتستريح بعد وقفة المطبخ الذي هدأت فيه الحركة. بدت الشقة فسيحة وعذبة السكون. ودخل هو الحمام ومعه كل أدوات الحلاقة التي يمتلكها: ماكينة فيليبس للقص بستة مقاسات. تبدأ بالدرجة واحد التي تترك الشعر بمقاس 3 ملليمترات. وتزيد 3 ملليمترات مع كل درجة حتى تصل إلى الدرجة السادسة التي تقص حتى مقاس 1،8 ملليمتر. ولأنه حلاق ذاتى محترف، فلم يكن في حاجة إلى مرآة عاكسة حيث تكفى مرآة الحوض ليلقى على حلقته نظرة واحدة أخيرة.

العملية كلها محفوظة ويستطيع أن يجريها باللمس وهو مغمض العينين. يمر على قمة رأسه حيث الشعر أقل كثافة بالمقاس 6. ويمشط الفودين والأجناب بمقاس 4. أما القفا فيمكن أن يخففه بمقاس 3. وأخيرا ينزع مشط الماكينة المتحرك ليصل إلى درجة الزيرو ليسوى حواف القفا باللمس وكذلك الفودين. ثم تأتى النظرة النهائية عبر المرآة ليجرى آخر التعديلات بعد إعادة المشط المتحرك فوق الشفرات وضبطه على الدرجة المُحدَّده للمهمة المطلوبة. وكانت هناك خصلة نافرة بجانب رأسه فوق أذنه اليمنى!

ثبَّت المقياس على 4 وراح يمر على المكان ليسوى الخصلة النافرة وتنتهى العملية. و«تررررر»، مر بالماكينة في مسار أفقى فوق الأذن ليهذب الخصلة النافرة فاستشعر برودة لم يعتدها، أحس بالماكينة تجرى بصوت نهم كأنها آلة حصاد جديدة في حقل قمح ناضج. لم يكن ينظر في المرآة وهو يُجرى هذه الخطوة الختامية والتفت بعد إنهائها إلى المرآة ليعاين النتيجة: «كارثة».

2-

رأى الكارثة!.. شريط أقرع تماما يعبر سواد الشعر في خط أفقى فوق أذنه اليمنى. لقد نسى أن يضع مشط الآلة فوق رأس الشفرات فكان يحلق بدرجة الزيرو برغم تحديده للمقاس 4. «بلياتشو»! لم ير منظره غير منظر بلياتشو بهذا الخط الأقرع العريض المحدد الذي يدور حول جانب رأسه من الجبين إلى ما وراء الأذن. كاد يتهاوى ونظرته الطويلة الضائعة معلقة على الخط الأقرع العابر فوق أذنه اليمنى. طريق جيد الرصف وسط حقل خصب. كاد يبكى من القهر، فهذا خطأ تقنى يصعب إصلاحه برغم خبرة الربع قرن في الحلاقة الذاتية العريقة. لو أنه كان على درجة 3 أو حتى 2 لكان خفف الشعر كله على هذا المقاس واعتبرها حلقة «مصيف» أو نزوة تخفيف. لكن هذه كارثة لا يمكن إصلاحها إلا بكارثة موازية.. أن يحلق رأسه كله على الزيرو! إنها «موضة» شائعة بين رجال كثيرين في مثل سنة يدارون بها صلعاتهم. وصرعة بين رجال الأعمال وبعض الكهول الذين يريدون إبداء فحولتهم بجماجم فولاذية ثقيلة ولامعة. لكنه لم يتصور نفسه أبدا على هذه الهيئة. ثم أن يظهر بها في التلفزيون؟ مستحيل.

دخل على زوجته مخذولا مثل طفل اقترف ذنبا وجاء يعترف لتسامحه أمه وتصلح ما اقترفه. ورفع يدا بطيئة خجلة ليشير إلى الخط مديرا رأسه ناحيتها وقد كانت مضطجعة تقرأ في السرير. قصفته بنوبة ضحك لم يشعر بأن هناك قسوة في العالم تعادلها. ولما رأت نظرات اللوم والأسف العميق في عينيه نهضت وراحت تتلمس الشريط الأقرع مغالبة رغبتها في الضحك، ثم متألمة راحت تمسح براحتها على رأسه. «البس طاقية». «طاقية في التليفزيون؟» كان سؤالا استنكاريا أردفه ببرهة صمت، بعدها أصدر قراره: «لا مفر.. أَعتذر لهم» وقبل أن تفتح فمها كان قد التقط هاتفه من فوق الكوميدينو وطلب مُعِدَّة البرنامج التي يعرفها. وراح يحبك الكذبة: «أستاذة مروة. أنا آسف جدا.. أنا مصاب والإصابة في الرأس وطبعا منظرى غير مناسب أبدا للظهور في البرنامج.. أرجوكِ اقبلى اعتذارى، وبلغى اعتذارى للأستاذة مُنى والأستاذ عمرو».

كان يُجهِّز نفسه لتكثيف الكذبة بمزيد من الإضافات لكنه فوجئ بتدفق عواطف المُعِدَّة التي راحت تسأله عن حجم الإصابة وتطمئن على سلامته وتستسمحه في الاطمئنان عليه بانتظام حتى يتعافى ويعود بالسلامة لموعد جديد. ارتمى متمددا بارتياح على السرير بعد انتهاء المكالمة. وعادت زوجته تنظر إلى رأسه وتضحك. ثم خبت «كريزة» ضحكها واكتست ملامحها بإهاب الجدية والحدب. راحت تستعرض معه سبل الخروج من المأزق لكنه لم يكن يسمعها.

نهض وأحضر كابا مما يذهب به إلى النادى وارتداه ناظرا في مرآة التسريحة. كانت حافة الكاب لا تغطى الشريط الأقرع، بل تجعله أسطع ظهورا. ماذا يفعل؟ يمكنه أن يتغيب عن مرسمه في وسط البلد بضعة أيام حتى ينمو شعره ويتقبل الإصلاح. لكن ماذا عن الخروج للضرورات؟ ثم إن الأولاد سيعودون من المدرسة بعد قليل ويرونه بهذا الشكل؟ وبرقت في خاطره فكرة شريط بلاستر طبى عريض. شريط يلصقه على الشريط الأقرع فيبدو كضمادة على جرح. وكان شريط البلاستر مقنعا تماما وكافيا لتحويل منظر البلياتشو إلى مُصاب بجرح بسيط يدعو للتعاطف ولا يثير الهلع. «ممتاز»، كان ذلك تقريره النهائى وهو يعاين «المنظر» في المرآة بعد أن ارتدى ملابسه وألصق البلاستر واعتمر بالكاب. لكنه ما إن شعر بالاطمئنان على إمكانية خروجه من المأزق حتى ألغى إلحاح الخروج لإحضار الجرائد والمشتريات، وقرر البقاء في البيت. وكان منهَكا بالفعل وهو يستلقى على السرير بلا كاب ولا بلاستر.

■ ■ ■

«بابا..» لم يكمل ابنه الصغير تساؤله وهو يشير باستغراب وفزع إلى شريط رأسه الأقرع فور أن رآه وهو يفتح له الباب عائدا من المدرسة. ووجد نفسه يبادر الصغير بالضحك ويموه بالمزاح: «إيه.. حلقة جديدة اسمها رنج روود.. تحب أعملك واحدة؟». لم يستوعب الصغير المزحة. «لأ شكرا».. قالها بسخط وهو يُنزل حقيبة المدرسة الثقيلة، ومضى مباشرة إلى حجرته، بعد أن خلع حذاءه قذفا في هواء الطرقة تاركا والده عند الباب. وبينما كان الأب منشغلا بمتابعة نشرة أخبار الثانية راح الولد يحوم بقربه ثم واجهه: «بابا.. بصراحة الحلْقة دى وحشة.. وحشة جدا». ووجد نفسه يحاول استدراج الولد ثانية للمزاح: «رنج روود يا بنى.. رنج رووود.. عارف يعنى إيه؟». وأجابه الولد بنفاد صبر «عارف.. طريق دائرى».

■ ■ ■

عند الغداء استقر هو على رأس المائدة وزوجته قبالته وعلى يمينه جلست البنتان، وفى اليسار جلس الولد. لم تنتبه البنتان للجملة المنغمة التي راح الصغير يشاكس بها والده «رنج رووود. يارنج رووود. يارنج روود». لكن البنت الكبرى صرخت موقعة ملعقتها عندما نظرت إلى رأس أبيها «بابا مالك» قالتها بهلع ناهضة من مكانها مقتربة من رأس أبيها وأختها الصغرى تتبعها ببراءة حائرة. «حلْقة جديدة اسمها رنج روود» قال الصغير وهو يعاود تنغيم العبارة «رنج روووود. يا رنج رووود». لكن والدته نهرته بينما كان الأب يفتعل الضحك والبنتان لا تفهمان ما يحدث.

3-

رسوم ثيمات الوشم لدى قبائل الماورى بجزر جنوب المحيط الهادى

عاصفة سوداء خاطفة اجتاحت المزحة التي ظلت تتحرك في البيت على امتداد ثلاثة أيام.. في اليوم الرابع من رصف الشريط الأقرع جاءت المكالمة متأخرة في المساء: «ممدوح.. إنت ممدوح.. احلف». كان المتحدث صديقا مقربا يهاتفه من الإمارات. «ألله. مالك يا حسام. إنت نسيت صوتى؟». لم يكن صديقه قد نسى صوته. بل كان لا يتوقع أن يسمع صوته بعد الآن. وانفجر على الهاتف يبكى. «مالك يا بنى.. إيه يا حسام؟». «أنا كويس يا دوحه.. المهم انت.. حمدا لله على سلامتك.. ألف حمد لله على السلامة» وأخذ الصديق يكفكف بكاءه بتماسك يشى به صوته المتهدج. كان يتصل بعد أن بلغه نبأ مفزع يؤكد أن ممدوح قد مات. «مُت؟» حاول بأقصى طاقته أن يسيطر على انهيار قلبه، وأن يلون طعنة حزنه المباغته بشعاع من ضحك مفتعل: «يا بنى أنا زى الجن أهه. مالك انت. مين ابن المجرمة اللى عايز يموتنى ده؟». ولم يكن من نقل النبأ الكاذب مجرما ولا ابن مجرمة. لقد كان صديقا مشتركا انهار عند سماعه النبأ من صديق ثالث نقله إليه أحدهم قال إنه سمعه في راديو سيارته وهو يقود في الطريق بين الشارقة ودبى وأراد أن يتأكد من رعب الخبر.

انتهت المكالمة وهو يضحك منتزعا ضحك صديقه المتصل من بعيد. لكن الضحك تبخر منقشعا عن حزنٍ عميقٍ قاتم بعد أن أغلق الخط.

أوشك شعوره بالحزن أن يجعله يتهاوى مذهولا وسط الغرفة. وأسرعت زوجته تحتضنه مبهوتة مما تراه «ممدوح.. خير.. مالك؟ مالك؟. «تصورى.. إشاعة وصلت للإمارات إن انا مت». «يا ساتر يارب. يا ساتر يا رب» أخذت تردد بهلع. وتذكر هو ما حدث لفريد شوقى عندما نعوه في الإذاعة وهو حى، وسمع نعيه فأجهش بالبكاء. بكاء حارق لم يعرف من شاهدوه أي بكاء يشبهه. كثير من الفنانين الذين أفزعهم الخبر سارعوا إلى بيته في العجوزة. وأضناهم كذب الخبر وهم يحاولون تخفيفه عن وحش الشاشة المطعون في سريره. أبرع نجوم مصر أخرجوا خلاصة قدرتهم على الإبهاج لتضميد الجرح النافذ في قلب «الملك». صلاح السعدنى وعادل إمام وسعيد صالح قدَّموا بين يدى وحش الشاشة ما لم يقدموه أبدا على أي شاشة أو مسرح. لكن فريد شوقى مات بعدها بفترة وجيزة. ولعل ذلك النعى المشؤوم هو الذي عجل بوفاته. وها هو يمر بتجربة مشابهة!

كيف حدث هذا؟ ليس هناك من أذاه ليكرهه إلى هذا الحد. وهو لا يعرف أحدا بهذه الدرجة من العبث المجرم. لعلها كرة ثلج أخذت تتدحرج خارجة من شريطه الصغير الأقرع، وراحت تكبر حتى صارت بضخامة وفظاعة الموت. كان هناك إعلان عن ظهوره في البرنامج مساء ولم يظهر. ولابد أن مُعِدَّة البرنامج تحدثت عن اعتذاره بسبب «إصابة في الرأس». ولابد أن هناك من تصور إصابة الرأس هذه شديدة الخطورة. ثم كان هناك من وصل بالخطورة إلى غرفة عمليات، فجراحة خطيرة في المخ، فغرفة إنعاش، فموت! وهو الآن ميت لدى عشرات وربما مئات أو آلاف الناس الذين مر بهم النبأ وهو يقطع أكثر من ألفين وأربعمائة كيلومتر من القاهرة إلى دبى. ماذا يفعل؟! كان ضائعا في الغرفة التي أغلقت زوجته بابها حتى لا يشعر الأولاد بشىء. وراحت تبكى في صمت وهى تحتضنه. فيما كان يخفف عنها متضاحكا. يمسح دموعها ويقبل وجهها «بالذمَّة دا كلام. شفتينى وأنا ميت. بالزمة مش شكلى يجنن؟» وكانت الدعابة تتبدل داخله، وتطيح بالمزحة.

4-

رسوم ثيمات الوشم لدى قبائل الماورى بجزر جنوب المحيط الهادى

«تجربة فنية. معايشة خارقة لمشاعراستثنائية» لماذا لا يترك الشائعة تعمل لبعض الوقت، ويراقب من موقع خفى مشاعر من يعرفهم أو لا يعرفهم تجاهه؟ ليمتحن حقيقة كثيرين من الناس، وحقيقة مكانته بينهم، وربما مكانته في الحياة من زاوية الموت؟

وضع تليفون البيت على الوضع صامتا، وكذلك هاتفه الجوال، واختفى عن الأنظار منبها على زوجته والأولاد أن يخبروا من يسألهم عنه بأنه مسافر، مسافر إلى مكان لم يخبرهم به، وإذا ألحوا في الحصول على إجابة محددة عن المكان أن يقولوا لهم إنه في الواحات يرسم مناظر معرضه القادم. أي واحات بالضبط؟ أوصاهم ألا يجيبوا. أن يزعموا كونهم لا يعرفون. وظل قابعا في منزله لا يخرج إلا تحت جنح الظلام، ولا يظهر إلا في أماكن يتوقع ألا يرى فيها أحدا من معارفه. وإمعانا في الاختفاء كان يرتدى كابا بحافة كبيرة تغطى معظم وجهه ونظارة غامقة عريضة، وترك ذقنه وشاربه ينموان بلا تشذيب. اختفى. صار شبحا ليليا وفى آخر الليل يهبط ليشترى جرائد اليوم التالى. ومن مكمنه في مملكة الظل راح يراقب نمو شائعة موته وتحولها إلى خبر غير مؤكد، فخبر شبه مؤكد.

■ ■ ■

بدأ كاشف الأرقام في منزله يصاب بالجنون دون رنين، وكانت قائمة المكالمات التي لم يرد عليها تتمدد في هاتفه الجوال الصامت. سيل من أرقام الطالبين يعرف بعضها، ولا يعرف أكثرها. أرقام تتكرر بإلحاح، كان معظمها لمن يوقن أنهم يحبونه، وبعضها لمن يشك في حبهم له. بل كانت هناك مكالمات متكررة لبعض منافسيه وكارهيه. هل كانت مكالمات المحبين تعبر عن اللهفة والصدمة؟ وهل كان من يحسبهم حسادا وكارهين يريدون تأكيد موته لأنفسهم الراغبة في اختفائه؟ أم كانوا يكشفون عن وجه إنسانيٍّ آخر لإحساسهم به؟ هل ثمة حب عميق تحت قشرة التنافس في مجال يموج بالصراعات ويشبه الغابة برغم أن ساحته الجمال؟ هل كان الكواسر في هذه الغابة يكشفون عن قلوب إنسانية في حضرة موته الغائم؟ وهل كان محبوه يبكونه بدموع حقيقية أم كانوا يُعبِّرون عن حزنٍ عابر بحجم إحساسهم الواقعى به وقد زال غطاء مجاملة الحضور؟

أخذ يتابع في الصفحات الفنية تهويمات تحوم حول شائعة اختفائه. ثم كانت هناك تساؤلات واضحة عن موته. ولسبب مريب راحت الصفحات الفنية وبعض البرامج الثقافية تركز الحديث عن لوحاته. كان هناك من أظهروا رفقا في التناول لم يعتده منهم. وكان هناك منافقون كشفوا عن أنيابهم وهم يأكلون لحمه ميتا بالباطل مُدعين حيدة النقد. ثم بدأ جرس الباب يدق بلهفة. أخواته البنات كن يجئن بدموع قرحها البكاء وما أن يروه حتى ينهرن باكيات وهن يندفعن لاحتضانه. شقيقه جاء صامتا وظل لا يتكلم مكتفيا بأن ينظر إليه كل فترة ويبكى. أصدقاء قليلون جاءوا كاتمين السؤال في قلوبهم وانصرفوا وهم يتنهدون ارتياحا بعد رؤيته. أحدهم جاء بفضولٍ غالب ومضى مخذول الهيئة كأنما أصيب بالإحباط لرؤيته حيا.

لم يجرؤ أحد من زواره على البوح بسر مجيئه غير صديق عمر متصعلك وضح أنه أجَّل حضوره حتى ينسطل بتعميرة كاملة ليقوى على البوح. وعندما رآه أخذ يضحك، يضحك ضحكة الحشاشين المقهقهة الساعلة التي لا تهدأ حتى تنبعث من جديد. كان لا ينى يردد «تصدق ياله يا ممدوح انت حلو وانت ميت». «غريبة يا أخى إن الإنسان يتكلم وهو ميت» «الله هو الميتين بيشربوا شاى؟ وكمان بالقرنفل يابن الرايقة؟» «مدلع نفسك حتى وانت ميت يادوحه». وعندما أراد إيقافه: «إيه حكاية موت وميِّت اللى انت ماسكها دى يابن المسطولة» وهنا نظر إليه صديقه المسطول بعينيه الحمراوين وقفز يحتضنه منهارا في بُكاءٍ جهيرٍ ناشِج. ومع التهدئة كشف الصديق عن استتباب خبر موته الذي ملأ البلد، وعن نذالات راحت تزيحه عن مواقع كان يشغلها، وتعاقدات أوغاد أخذت تركب على أنفاس تعاقدات أبرمها في أعمال الزجاج المعشق. ولم تخْلُ الحكايات من ملامح نبالة أبداها بعضهم وإصرار على الدفاع عنه حتى برغم ترجيحهم موته. كان ميتا إلى حد لم يتصوره خارج بيته وبعيدا عن عباءة الليل التي يختبئ فيها. كان ميتا موتا تتطلب إزاحته الكثير من جهود الحضور في الحياة.

5-

هو وزوجته وصديقه الذي أفاق من انسطاله مع بضعة فناجين قهوة مُرَّة وطبق مخلل. ثلاثتهم والأولاد الذين راحوا يحومون حولهم غير فاهمين ما يحدث شرعوا يخططون لدفع غائلة موته وإعادته للوجود.«لو كذِّبت الخبر ممكن يتأكد أكتر». «رُد عادى واخرج كتير واحضر هنا وهنا وأعطِ أخبار للصحافة». كانت زوجته وصديقه يرسمان له خططا لنفى موته، بينما كانت الحياة في داخله.. ترتعش.

اندفع يمعن في تأكيد وجوده حيا وهو لا يدرى أنه يوغل في الترويج لخبر موته الذي كان يلهو به من قبل. يتصل به الأهل والأصدقاء بأصوات مرتعشة فيجيبهم بصوت صاخب ومزاح متعمد حتى أنهم شكوا في أن يكون هوَ هوَ. يرتاد حفلات الاستقبال التي كان نادرا ما يستجيب لدعواتها، ويظل يدور بين المدعوين بانفتاح غريب عن طبيعته ليقول إننى هنا. وكان ذلك يتحول إلى افتراض أن شخصا آخر يشبهه يحل بمكانه. يحضر افتتاح معارض وندوات مُزاحما ليتقدم الحضور هو الذي كان يندر الإحساس بحضوره، فينزلق إلى غياب أعمق في ذاكرة من يربكهم سلوكه الجديد المفاجئ. راح يكثر من إعطاء الأخبار عن معارضه القادمة ومشاريعه المستقبلية وحتى عن أحلام يقظته فيتحول إلى طيف.

وعندما نما شعره أخيرا ليمكن تسوية رأسه كلها بمقاس 2، أي بطول يقارب السنتيمتر، ذهب إلى الحلاق لأول مرة منذ سنوات بعيدة لأنه صار مرعوبا من ارتكاب خطأٍ قاتلٍ جديد. وخرج من محل الحلاق برأس مختلف تماما عن رأسه الذي اعتاده من عرفوه على مدى سنوات وسنوات. سوالف مفتوحة بخطوط حادة تناقض سوالفه المقفولة التي ظلت تغطى منبتى أذنيه فيما قبل. ورأس صغير بشعر منحه التقصير إحساسا بالانسراح على عكس شعره الكثيف الأجعد السابق. وعندما ظهر في أكثر من برنامج من هذه البرامج التي كان ينبذها والمسماة «توك شو» أقسم كثيرون ممن رأوه من قبل في الواقع أو على صفحات الجرائد أو على الشاشات أن هذه تسجيلات عمرها يرجع لسنوات ماضية، حيث كان أصغر بخمس سنوات على الأقل. ثم أوقف كل هذه النشاطات لأنه ظل يقرأ في العيون نظرات غريبة تشتمله بإحساس التحديق في ميت.

6-

«ممدوح.. مالك؟» سألته زوجته وهى تحس به يستيقظ قبل الفجر لليوم الثانى، دون أن يكون هناك ما يفعله. يجلس في الظلام متكوما على نفسه في جوف أحد الفوتيهات في الصالة ويلفه صمت مريب. ثم اكتشفت أنه يبكى بلا صوت. رأت بللا يلمع على وجهه في انعكاس أضواء الشارع المتسللة عبر زجاج الواجهة. وعندما مدت أناملها إلى وجهه تتحقق من هاجسها انقبض قلبها. أشعلت ضوء الصالة الصغير حتى لا تلفت نظر الأولاد النائمين فرأت بكاءه الغريب. بل رأت بكاءً لم تر مثله. عيناه مفتوحتان في شرودٍ تمتلئان وتفيضان بدفق دموع غزيرة لا مجرد قطرات. ضمته فلم يجهش ولم يرتعش نحيبه «مالك؟ مالك؟ مالك ياحبيبى؟ باسم الله الرحمن الرحيم. باسم الله الرحمن الرحيم». وحاولت مداعبته لتكف عيناه عن هذا الفيض. بل تجاوزت أقصى حدود مداعبتها ومدت يدها إليه في تدلل لم تجرؤ عليه أبدا من قبل، فلم تجده غير ذابل ومنكمش على نفسه وتعتريه برودة هو الذي لم يكن غير منتفض دائما ومتقد السخونه. شعرت بالرعب والعجز فكفت عن محاولاتها وجلست إلى جواره هامدة حتى طلع النهار. رأت عينيه حمراوين من أثر البكاء. «ادخل كمل نومك علشان الأولاد ما يشوفوكش بالحالة دى». وجذبت يده فأطاعها مثل طفل أنهكته الحُمَّى.

غاب عن سُفرة الإفطار لأول مرة منذ سنوات بعيدة. غاب أيضا عن سُفرة الغداء. ولم يتناول شيئا حتى ألحت عليه زوجته في المساء بكوب من عصير البرتقال لم يأخذ منه غير رشفة. وواصل تواريه عن عيون الأولاد في الأيام التالية. حتى طفلته الصغرى «تميمة» التي كان يعشقها تحاشى لقاءها. وواصلت زوجته اختلاق الحجج لتُسكت أسئلة الأولاد «بابا عنده نزلة برد. بابا واخد أدويه شديدة مهمداه». لكن وجوم البيت أخذ يزحف على أصوات الصغار أيضا ويطفئ رنين ضحكاتهم. ولم يكن ممكنا أن تقف زوجته مكتوفة اليدين أمام ما تراه.

■ ■ ■

قرص دوكسبين 15 ميلليجرام مرتين يوميا هو ما وصفه طبيب الأمراض النفسية للرجل الذي أخذته زوجته إلى عيادته متساندا عليها حتى لا ينهار في الطريق. كان يتلاشى من فرط زهده في الطعام ويجف عوده بما يسفحه من دموع لا تنقطع. وبعد ثمانية أيام أوقف الدوكسبين الدموع وحرك الشهية للطعام قليلا فصار يجلس مع أولاده على الغداء لكنه لايتناول إلا لقيمات. لم يكن يشاركهم إفطارهم كعادته القديمة قبل أن يذهبوا إلى المدرسة لأنه كان يتأخر في استيقاظه بعد أن يكون الأرق قد مزق نومه في الليل. كان ينام مبكرا فلا يحضر عشاءهم لكنهم ما ان يخلدوا للنوم حتى يستيقظ. في البداية كان يتحرك هشا وبطيئا كشبح في ظلام الشقة الساكنة. ثم بدأ يُحدِث ضوضاء صغيرة تجعل زوجته تستيقظ لتجلس معه بعض الوقت مغالبة نعاسها حتى تطمئن عليه ثم تنسحب لتكمل نومها لتكون قادرة على أداء واجبات الصباح قبل ذهاب الأولاد إلى مدارسهم.

لكن قدرتها على النعاس تمزقت تماما عندما تبعته فور إحساسها بغرابة في استيقاظه هذه المرة بعد منتصف الليل. وجدته يهيم بتشوش وارتباك ويصطدم بالمقاعد دون أن يجلس على أحدها ثم يتوقف ضائعا في العتمة محدقا إلى نقطة لانهائية البعد غامضة في مسقط الشعاع المتسلل من الشارع عبر زجاج النافذة. ثم كانت لحظة رعبها الأكبر حين أوقدت النور ووقفت أمامه فلم يتحرك ولم يرمش كأنه لايراها. كان لا يعرفها. حاولت ضمه فتملص بضيق دون أن تعود نظرته الغامضة من ضياعها في اللاشىء. حاولت أن تهزه لتتنبه نظرته ويتنبه إليها ففوجئت به ينفجر في نوبة هياج كان خلالها يزأر ويزوم كأنه فقد القدرة على استخدام اللغة. «مممم اااااا هـيييييي». شرعت تقترب منه وهى تناديه في رجاءٍ حارٍ تخافته بأقصى ما تستطيع «ممدوح بص لى.. ممدوح إهدا.. إهدا يا حبيبى.. أنا فاتن. ممدوح. يارب. يارب» لكنه لم يستجب لها. ولم يتكلم. وأخذت الأنوار تُضاء والأولاد يجيئون.. يطير النعاس من عيونهم وتحل بمكان النوم الدموع. لكنه لا يرِقُّ لدموعهم. كأنه لا يراهم. يبدو شبحا يطل من عالم غريب على عالم يستغربه.

7-

«أعجوبة مريرة»، هكذا وصف الأستاذ الكبير لتلميذه ونائبه حالة الرجل التي قدمها أمامه، والتى تم تشخيصها عتها أوليا مبكرا، مبكرا للغاية، وخاطِفا في تدهوره، من نوع ألزهايمر PDDAT. أعجوبة مريرة لعاصفة عاتية وصامتة لم تستغرق أكثر من شهرين في مرورها فوق دماغ الرجل لتُجدِب قشرة مخه العليا، لحاء الوعى والإدراك الأثمن والأحدث، وتتركه ميتا في الحياة، يحدق كما بعيون الموتى إلى نقطة في البعد اللانهائى خارج وجود البشر والحياة البشرية، لا يستجيب ولا يجيب، ويتحرك في متاهة طيف أو شبح. شبح دائم التجوال كأنه يهيم في وادى الظلال. موجود وغائب، حى وميت، كبر أكثر من أربعين سنة في شهرين فقط. ولا علاج حقيقى له حتى الآن، بل ذوو المريض المُقدَّرة عليهم العناية به هم الأولى بالعلاج.. هكذا تقول كل مراجع المرض، وتُشدِّد على الانتباه إليه، وقد شدد الأستاذ على تلميذه أن يفعل.

علاج نفسى تدعيمى راحت تخضع له الزوجة التي وقعت على رأسها الكارثة حتى لاتنهار، وكانت مضطرة أن تُحضر معها الابنة الصغرى تميمة، كلما أتت إلى المصحة التي أُودع بها الزوج، لأن موعد جلستها كان يتقاطع مع موعد خروج روضة الطفلة. اطمأنت إلى سلامة أن تتركها في عنبر عته المسنين، حيث يوجد والدها الغائب عن الوجود. خاصة أن الطبيب النائب صار مولعا بالصغيرة التي كانت جميلة ذكية، ولطيفة أليفة بشكل يصعب مقاومته. يبتهج بحضورها ويمطرها بالشيكولاته واللعب كلما جاءت، تلعب هنا وهناك منجذبة بخيط غامض ورهيف إلى والدها الملفوف بالتيه، تلاعبه وهو صامت وجامد، وتحدق بنظراتها المؤثرة الجميلة في عينيه الشاخصتين إلى لا شىء، تحاول أن تطعمه قطعة مما تأكل. تمل محادثته وملاعبته التي بلا مجيب فتذهب لتلعب هنا أو هناك، لكن ذلك الخيط اللامرئى يعيدها إليه، كأنها لا تيأس أبدا، نوع من الإدراك الغامض في مواجهة إدراكٍ تلاشى، فهل حقا تلاشى، أم يكون كامنا ومختفيا في مكان ما؟ قبو مظلم في غياهب العقل له مفاتيح سرية وشروط للاستجابة. فما هي هذه الشروط، وأين تختفى المفاتيح؟. أسئلة كان الطبيب النائب يكررها داخله وهو يطوف ببصره على نزلاء عنبر المسنين فيتوقف عند الحالة الاستثنائية ــ بالعمر ــ في هذا العنبر، وقفات متألمة ويائسة وآملة بيأس كان يسجلها جميعا في دفتر ملاحظاته الخاصة كطبيب متحمس تُحيِّره طلاسم العقل وتُذله معضلة ألزهايمر التي ابتلعت عقل والده ويُرجِّح أنها بئر مفتوحة لتبتلعه هو أيضا وإن بعد حين، معضلة يحلم بحلها، بل الانتصار على إرهابها له. ويفيق من أحلامه على بارقٍ خاطفٍ في صوت صغير.. صغير.. صغير.

8-

«بص لى هنا يا موحة.. بلاش تبص بعيد في الحتة الوحشة دى.. ياخ ياخ.. إيدك باردة.. افتحها أدفيها لك بإيدى.. إيدى صغيرة بس دافية.. افتح إيدك كويس.. شاطر يا موحة.. ياخ ياخ والله إيدك بقت سخنة.. ما تمسكش إيدى جامد كده يا موحة لاحسن توجعنى.. أنا قلت لك بص لى واضحك مش تبص وتعيط.. أزعل منك يا موحة.. يا بابا..بابا..بابا».

كانت الصغيرة تشب على قدميها الصغيرتين لتطال ذقن الرجل الناحل اليابس الذي كان جالسا محنيا في جمود، تقبل ذقنه المبتلة بدموع مفاجئة تفجرت من عينيه التائهتين، هل يُعقَل؟ دموع؟! تساءل الطبيب الشاب مذهولا وأخذ يكرر السؤال المتعجِّب، دموع؟! دموع؟!»، دموع لم تذرفها أبدا عيون الهائمين في وادى الظلال. وادى ألزهايمر. وادى الغياب برغم الحضور. عيون لا تنظر إلى شىء محدد لأنها لا ترى شيئا محددا. ليست حتى كعيون المحتضرين التي تنظر إلى اللانهاية قبل انطفائها النهائى. عيون ألزهايمر الخاوية التي لا ترى غير الخواء. ومن خوائها يستحيل أن تتدفق الدموع. هذه دموع انفعال حى. انفعال حى. انفعال حى.

«الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعبر عن عواطفه بذرف الدموع». معلومة تسطع بقوة في ذاكرة الطبيب الشاب، فالدموع ظاهرة إنسانية فريدة، ظاهرة صحة نفسية أيا كان موقعها، فهل ما يراه أعجوبة مضادة للأعجوبة المريرة في حالة رجل ذكى وموهوب يضربه ألزهايمر في عمر الأربعين؟ أعجوبة مضادة واعدة يمسك بطرف خيطها الرفيع الشفيف مقررا أن يستعيد قصة الفنان ممدوح دفراوى.. كلها من جديد، يدقق فيها، يراجعها، ويخايله مجد غامض ربما ينسب إليه اكتشافا طبيا لم يسبقه إليه أحد، انقلاب خارق في قوانين الطب ومُسلَّمات ألزهايمر السائدة. انقلاب فجرته لمسات طفلة صغيرة لجمود أبيها الذي تحبه ولم يغب عن روحها الغضة أبدا أنه يحبها. غمرته دون انقطاع بهذا الحب المثابر الذي لا يعرف الكلل ولا يقبل الاستبدال. قطرات الماء الصافية التي تهبط قطرة قطرة على الصخرة الجامدة حتى توهن صلابتها فتستسلم لإرادة الصفاء، وتنشق عن قلب طازج ينكشف للنور، فكأنه قلب جديد.. عقل جديد. «هل هذا معقول يا تميمتى الصغيرة الجميلة؟» هل هذا معقول؟!

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية