x

محمد المخزنجي د. محمد المخزنجى يكتب: بحثاً عن تفاؤل محمد المخزنجي الأربعاء 20-04-2016 21:49


إنه وقت البحث عن تفاؤل، أعرفه عندما تهجم على جنبى آلام ساحقة وخانقة لا أساس عضوياً لها من أي نوع، مرض نفس- جسمى ضمن تسمياته «القولون الحزين» Unhappy colon، احتفظت بالاسم الشعرى له منذ كنت في الخامسة والعشرين من مرجع بريطانى كبير وجميل في الأمراض الباطنية، وهو اسم يشى بالآلية المرضية النفسية لإحداثه، لكن ثمة صياغة شعرية أخرى تفسر هذه الآلية بشكل أوضح وأوقع، احتفظت بها أيضاً من كتاب بديع آخر في التشخيص التفريقى في طب الطوارئ يبتدئ كل فصل منه بقول مأثور، وفى فصل الأمراض النفس- جسمية كان المأثور: «عندما لا تبكى العين ينتحب الجسد»!

وفى الفترة الأخيرة لم تكن العين وحدها هي التي تهش للبكاء، بل الروح كله، ففى العاشر من مارس الماضى كرستُ رَحبَتى لنقد عوار في منهج الحكم في مشاريع التنمية استشففته من تفسيرٍ لآلية عمل المخ التي أسماها عالم البيولوجيا اللامع «ديفيد إيجلمان» في كتابه «المتخفى»: «ديمقراطية الذهن»، حيث يصل العقل إلى اتخاذ قراراته الصائبة عبر تنافس بين دائرتى التفكير الاندفاعى العاطفى والتفكير العقلانى المُتحسب للعواقب، وفى مقالى «ما كان مبرراً لم يعد مقبولاً» قلت إنه قد آن الأوان أن ننتقل من مرحلة التفكير الاندفاعى الانفعالى الذي كان مُبرَّراً تحت أقواس نيران حرب شاملة كانت تُشن على مصر من داخلها ومن خارجها، إلى التفكير العقلانى المُتحسِّب للعواقب في مرحلة بدأت فيها الدولة تتماسك بفضلٍ غير منكور لمتخذ القرار وللجيش والشرطة، مهما كانت الملاحظات.

والآن، وفى أعقاب قضية جزيرتى تيران وصنافير، التي أقف حيالها موقف المتحير والمُستاء، تابعت مظاهرات لا أحسبها حاشدة كما ادَّعت الفضائيات الموجهة من الخارج وتدَّعى دائماً عبر مُستخدَميها الذين يتصورون أنهم ينالون من الحُكم بينما هم حقيقة يدوسون في اندفاعاتهم عمياء الحقد في بطون مصر والمصريين جميعاً، وقد راعنى في هذه المظاهرات هتاف صار أحمق ما يكون وأعمى ما يكون وأبغض ما يكون، وهو «الشعب يريد إسقاط النظام». فهؤلاء الذين رددوا هذا العماء، ولم يكونوا غالبية المتظاهرين، لا يمكن- أولاً- أن يكونوا «الشعب» بعددهم المحدود حتى لو كانوا بضعة آلاف. وثانياً، وتطبيقاً على أن «المؤمن لا يُلدغ من جُحْر مرتين»، وقد جربنا «إسقاط النظام» الذي حول الثورة إلى هوجة، وانتهى إلى تسليم الحكم لجماعة أحسبها من أسوأ ما ابتُليت به مصر، وهنا أعنى التنظيم السرى أو شبه السرى للإخوان، لا كل منتسبى هذه الجماعة ولا كل مناصريها، فكثير منهم- ذوو المعدن الطيب- كانوا ضحايا حسن ظنهم بها، وهؤلاء أوْلَى بنظرة عادلة لمحنتهم، ولمحة بعيدة النظر لتقليل خصوم ليسوا في أعماق قلوبهم خصوماً لهذا البلد كما أوقن.

هذا الهتاف الذي صار بغيضاً «الشعب يريد إسقاط النظام»، لا يملك الزاعقون به أي بديل لنظام يقوم بعده، وإذا ضممناه إلى غباوة مطلقة حلقمت في الأيام الأخيرة بمقولة «اصطفاف القوى الثورية»، وقد حشرت ضمن هذه القوى جماعة الإخوان التي رأينا منها ما رأينا وكان خافياً ودميماً ونزَّاعاً للعنف ومُحتفياً بالتدمير، نصير أمام دفع بالأمة إلى لدغة سامة جديدة من ثعبان أنكى شراً هذه المرة. ولست متشائماً لأُسلِّم بحدوث ذلك، لكننى ممرور من براءة أو غباوة حفنة من «الثوريين» العدميين والأناركيين في جوهر هياجهم غير المتبصِّر بالعواقب، ومن ثم، وفيما تدمى القلب براءة كثير من الشباب، وقصر النظر في استدراجهم إلى هذا الهتاف الذي صار دميماً، وأكثر دمامة بما يمكن أن يتبعه من فوضى، أرانى أقول لهم ما قاله عنوان الرحبة التي كانت موجهة للحكم «ما كان مبرراً لم يعد مقبولاً». والشعب بقدر ما هو غير مستريح لسياق الأحداث من حوله، بقدر ما هو متطلع لمطلب الإصلاح لا الإسقاط. وأعتقد أن الفض الذاتى للتظاهر، وعدم تحوله إلى اعتصام كما كان معتاداً في السابق، يؤشر إلى نضج وروح مسؤولية بازغة من غالبية المُحتجين، وهذا ينبغى أن يكون مُقدَّراً وكابحاً لأية اندفاعات انتقامية من السُّلطات إن تحلت ببعد النظر. بل إن بعد النظر الحقيقى هنا يقتضى التأمُّل والاعتبار.

الاثنان من أغنى أغنياء مصر بنوع مختلف تماماً عن النوع الدارج من الغنى بالثروة أو السطوة أو السلطة، إنه الغنى بالعطاء المقرون بالقدرة على الاستغناء عما هو زائد وباذخ. د. مجدى يعقوب فى زيارة د. محمد غنيم، والصورة فى مطعم العاملين بفرع مركز الكلى ذى المقاييس العالمية بقرية منية سمنود.

لقد ثابرت طوال عمرى، ولا أزال، على النأى بنفسى عن تبعية أي سلطة حكم حتى لو كنتُ أيَّدتها أو أؤيدها بقناعة ذاتية، وفى وقت بعينه، لكننى اليوم أضيف لمثابرتى مثابرة جديدة، هي النأى بنفسى عن عماء بصيرة معارضة انفعالية وفوضوية وغير مسؤولة ولا متحسبة للنتائج على هذا النحو. ولأن هذه المعارضة تلتهم زهرة عمر شباب رائعين في جوهرهم، وأخشى ألا تصطبر عليهم خشونة رد الفعل من السلطة، أجدنى بين فكى الحزن. ولأن الله منحنى من رحمته شيئاً من معرفة نفسى من زاوية نفسية، فإننى ألوذ بمرفأ البحث عن تفاؤل يخفف حزنى كى أستمر، وأفتش عن تذكارات باعثة على الإشراق فىَّ وفيما حولى، في هذه الفترة التي لن ينجينا- جميعاً- من أخطاء حساباتها إلا مزيد من الطاقة الإيجابية وعدم الاستسلام للإحباط، لنراجع ونصحح، ونصر على المراجعة والتصحيح. وقد وجدت بعضاً من هذه الطاقة في سيرة رجل من قليلين نادرين أصفهم بأنهم «أغنى أغنياء مصر»، غِنى لا بالثروة ولا بالنفوذ ولا بالسلطة، بل بالقدرة على الاستغناء عما لا يقوى الكثيرون على الاستغناء عنه من ذلك كله. وعثرت على مادة عنوانها «هل تعرف هذا الرجل؟» كنت كتبتها مقدمةً لكتاب عن الدكتور محمد غنيم، شرعت فيه، ثم توقفت في نوبة دهم للقولون الهش مما يتكاثر علينا من أسباب الحزن، وها هو ذا الحزن يتجدد بانتحاب آلامه في أجسادنا، وهى آلام لا مُزيح لها إلا بإشراقات النفس المطمئنة، لا هوجاء الغضب، ولا المتسرعة بالبطش. ألمٌ سيمضى بإذن الله وجلاء البصائر، ولن يكسر بلدنا الطيب قليل الحظ، كثير الصبر والرجاء.

هل تعرف هذا الرجل؟

لم يعد المكان هو المكان، وتغيَّر الزمان بأكثر مما كان متوقعاً، لكن هناك أشياء تجعل بعض الأمكنة، وبعض الأزمنة، أقوى حضوراً من نظيرتها الماثلة في اللحظة، لأنها تسكن الذاكرة بقوة تنبض بأقوى من حياة اللحظة الكائنة.

شرقىِّ شريط القطار، في الركن الجنوبى من الشارع الآتى من حى المختلط، مروراً بالمدرسة الأميرية ومدرسة الفرنسيسكان وسينما حديقة التحرير الصيفية التي كانت حديقة بحق، وبعد تجاوز مفرق شارع محطة الأتوبيس القديمة، كانت هناك محطة قطارات متواضعة، لكنها زاخرة بالحركة ومشغولة بتدفق البشر، كانوا يسمونها «محطة القطر الفرنساوى» أو «محطة قطورات سوارس»، وهى قطارات شديدة البساطة، شريط سكتها الحديدية ضيق وعرباتها صغيرة، لكنها كانت تقوم بحمل العِبء الأكبر في ربط أبناء قرى المحافظة بمدينة المنصورة.

كانت أبنية هذه المحطة شديدة التداعى برغم طرازها المعمارى القديم الجميل، بها درج دائرى يصعد إلى طابقها الثانى والأخير، ونوافذ طويلة وفسيحة، وشرفات مقوسة، ومكاتب موظفين هرمة وشديدة البؤس، لكن الجلوس في إحدى شرفاتها أو بجوار نافذة من نوافذها المفتوحة على الجهة البحرية، مع كوب شاى برفقة صديق، كان متعة يصعب تفسير فتنتها، وقد كنت أحب التواجد فيها كثيراً، بواسطة صديق أديب من أدباء المدينة يكبرنى ويعمل بهذه المحطة، اسمه أحمد حسنى، وقد كان رجلاً فقيراً وشديد الرقة والحنو، وأعتقد أنه كان يمتلك رهافة حس جديرة بحمله إلى مكانة أرقى أدبياً مما كان فيه ويظل فيه مثله من الكتاب الفقراء والخجولين والمنزوين بعيداً عن العاصمة وبريقها، وأجمل ما كان يتسم به بالنسبة لى هو أنه كان يتحمل نزقى وشرودى بتفهم أب أو أخ أكبر، يتوسم في ابنه أو شقيقة الأصغر إنجازاً بازغاً يثق في حدوثه، فكان يتركنى أطلب لنفسى كوب الشاى وأضعه على عتبة النافذة المفتوحة التي أتكئ عليها بمرفقى، أطل منها على مشهد محطة القطارات المنمنمة هذه، ومحطة القطارات الكبيرة وراءها، والكوبرى العلوى الذي كان يوصل إلى ميدان المحطة العتيق وعمائر حى الحسينية القديمة ذات الطراز اليونانى، وأول السكة الجديدة، بينما عالم الفلاحين يموج بالحركة تحت ناظرى، في تلك المحطة.

فى المنصورة يسميه أولاد البلد: «عم البلد»، وهو لقب لم يحصل عليه محافظ ولا وزير ولا مُحْسِنٌ كبير، فهو بعمله ووجوده كان معهم دائماً حين يتألمون أو يحلمون أو يثورون، وهو هنا مع أبناء المنصورة فى أحد أيام الثورة، مشاركاً وأباً روحياً.

لم يكن أحمد حسنى- رحمه الله- يقتحم متعة شرودى الطويل هذه، فكان يتركنى وينشغل بأعمال وظيفته في غرفة قريبة أو على مكتب متهالك عتيق بالغرفة نفسها، وكان بين الحين والحين يقف بجوارى مطلاً من النافذة دون أن يتكلم، هنيهات ويعود إلى مكانه، لكنه في لحظة فاجأنى بانفعاله الهادئ: «شايف الراجل ده، الأفندى اللى ماشى بالراحة جنب الفلاح اللى باينه تعبان، أكيد تعرفه، دا دكتور عندكم في الكلية».

الرجل المعروف بصرامته الإدارية وحِدَّته فى مواجهة الأخطاء هو أحد أرق الناس وألطفهم مع الضعفاء، سواء كانوا من أحفاده ـ فى الصورة ـ أو من عشرات آلاف المرضى الفقراء الذين عالجهم بخدمة مجانية وبمستوى راق فى مركزه عالمى المستوى.

كنت في المرحلة الإعدادية بكلية طب المنصورة، وقد كانت منفصلة وبعيدة عن مبنى المراحل التالية في الكلية والتى كانت تشغل مبنى الكلية «الجديد» الذي صار الآن قديماً ومتواضعاً، بجوار المستشفى الجامعى القديم الذي زاد قِدمه، وقد كان من قبل المستشفى العام للمدينة، أما «الرجل» الذي كان يصحب «الفلاح» فلم أكن أعرفه، وإن كنت سمعت اسمه مرات، مصحوباً بأحاديث متعجبة ومنبهرة عن «قسم 4» الذي يرأسه في المستشفى الجامعى، والذى حوَّله إلى قلعة تدور داخلها أساطير طبية غامضة، ومن الصعوبة بمكان أن يدخل هذا القسم من ليس له دور فيه كطبيب أو مريض أو من طاقم التمريض، أقصى ما استطعته أن أرى من دوران الطابق الثانى مدخل القسم الذي كان أحد عنابر المستشفى القديم، مطلى بلون كريمى مختلف، مصقول ولامع وصارخ النظافة على غير مداخل العنابر الأخرى التي ارمدَّ بياضها الجيرى. كنت أعرف الاسم «الدكتور محمد غنيم»، رئيس قسم المسالك البولية، وفوجئت عندما نطق أحمد حسنى باسمه، أنه شاب، ما بين الثلاثين والخامسة والثلاثين، طويل ونحيف وأسمر، ويرتدى ثياباً أنيقة بسيطة، منتعلاً حذاءً صيفياً من القماش كان منتشراً أيامها وندعوه «اسبدريه». وفى ظلال ما كنت أسمعه عن شدته الإدارية ونجاحاته المهنية، بدا لى وجوده غريباً في هذا المكان شديد التواضع وشديد التعبير عن فقر أبناء الريف، فهو «أستاذ جراحة»، بالمعنى التقريبى للمراتب الجامعية، وأظنه كان مدرساً لايزال، لكنه كرئيس قسم بمقام أستاذ، وأستاذ جراحة، أي أحد «آلهة الطب» كما كنا نراهم نحن طلبة الطب، ونسمع عنهم، ونردد بشغف طرائف حكاياتهم المسموح لهم فيها بأى اختراق للمألوف. فما الذي أتى بواحد من هؤلاء الآلهة إلى محطة قطارات أدنى درجة من درجات تواضع الحال في مصر، وبصحبة فلاح واضح البؤس يمضى معه على مهل شديد، مخضعاً خطواته هو الشاب الطويل رياضى القوام لتمهل خطوات الفلاح البائس؟

عند وقوع العدوان الإسرائيلى على غزة سافر إليها أستاذ جراحة المسالك العالمى الكبير متطوعاً كطبيب ليؤدى واجبه، الذى يحتم أثناء الحروب أن يؤدى الطبيب أدواراً خارج تخصصه وأدنى بكثير، تصل أحياناً لمجرد مُسعِف فى استقبال المُصابين. مع أطباء شبان فى لحظات راحة بمستشفى الشفاء فى غزة.

كان صوت أحمد حسنى خفيضاً، ويتحدث ببساطة تحمل على تصديق ما يقوله، لكننى في هذه المرة نهضت منخلعاً من جلستى بجوار النافذة لأختبر صدق ما قاله لى هذا الأديب الطيب عن هذا الدكتور محمد غنيم. هبطت قافزاً الدرجات القليلة لألحق باللامعقول الذي سمعته من صديق لم أعتده يبالغ أو يردد أخيلة بالرغم من أنه كان أحد صناع الخيال كأديب. واستطعت اللحاق بالرجلين المتمهلين، مُحافظاً على مسافة لا تخترق خصوصيتهما، سارا نحو شباك التذاكر فأوقف الدكتور الفلاح بجوار حائط يتساند عليه، وأسرع هو، الدكتور، ليقطع تذكرة، تذكرة واحدة، وعاد إلى الفلاح آخذاً بيده، وواصلا السير المتمهل معاً متجهين إلى القطار الوحيد الذي كان واقفاً في ساحة المحطة الترابية، ليس بمحاذاة رصيف، فلم تكن بهذه المحطة أرصفة، وعاون الدكتور الفلاحَ ليصعد إلى عتبة إحدى عربات القطار، حمله تقريباً، ثم صعد إليه، ومضى به يشق زحام القرويين الذين امتلأت بهم ردهة العربة وكان يدور بنظرات فيها حدة إلى الجالسين على المقاعد الخشبية، وعند أحدهم توقف، مال لامساً كتف شاب قروى متين البنية واضح العافية، وقصفه ببضع عبارات أدهشنى أن الشاب انصاع لها دون تبرُّم، بل بدا معتذراً وهو يلبى: «انت يا وحش هاتقوم وتقعَّد الراجل ده مكانك. وتاخد بالك منه لما يوصل وتنزله بالراحة وبالسلامة على الأرض وشكراً». وطير الدكتور قبلة على أصابعه للقروى الشاب الذي احمرَّ وجهه خجلاً وانخرط كأنما بشكل آلى ليساعد فلاح الدكتور في الجلوس مكانه، بينما ساد سكون عميق على المكان الذي كان ضاجاً بضوضاء تقاطعات أحاديث الفلاحين التي لا تعرف إلا الأصوات العالية.

حين عمل جراحاً فى نيويورك اكتشف أن زملاءه يأتون منتعشين لبدء العمل مبكراً وبنشاط لا يفتر، وكان السر فى أنهم يبدأون يومهم برياضة الجرى على شاطئ النهر، عادة اكتسبها ولم ينقطع عنها الدكتور غنيم، وهو فى الصورة مع فريق الجرى باستاد المنصورة 1994.

كان كل ما أخبرنى به أحمد حسنى صحيحاً إذن، فهذا الدكتور غنيم يُجرى الجراحة للفلاح مجاناً، ويعتنى به حتى يتماثل للشفاء، ثم يصحبه إلى محطة القطارات ويقطع له تذكرة ويجلسه في القطار ويوصى عليه، وينصرف كواحد من غمار الناس. بلا زهو ولا التفات إلى وجوه تلتفت إليه. فِعل متكرر كان الدكتور يقوم به ويظهر في محطة القطارات الريفية هذه، وبشىء ما، غامض وقوى وحاسم، كان يقطع الطريق على كل تملق أو عبارات شكر. فقط كان يتوقف أحياناً ليسمع أحدهم يشكو له مرضه، ويفيده بعبارات قليلة محددة، أو يكتب له ورقة توجهه إلى حيث يُفيد، أو يحدد موعداً له ليناظر حالته في المُستشفى.

في ذلك اليوم الطيب بدأ شغفى بظاهرة الدكتور محمد غنيم، ولم يكن فجَّر بعد مأثرته العلمية كأول جراح مصرى يجرى زراعة كلى ناجحة نجاحاً استثنائياً، ليس في مصر فقط، ولا في العالم العربى وحده، بل في المنطقة كلها بما فيها دول تُعتبر أغنى وأكثر تقدماً علمياً وتقنياً وارتباطاً عضوياً بالغرب المتقدم. صرت أتلقَّط أخباره وتبهجنى كل الحكايات عنه، وعندما أراه أتوقف لأتأمله كظاهرة تمشى على الأرض، ظاهرة استثنائية ومُفارِقة لعالَم يحيط بها، عالَمُ يتفاخر برتابته ويزهو بركوده وبريقه المصطنع وتيبسه بنشا الوقار المتخشب ولزوجة افتعال التحضر ووهم العظمة. بالرغم من أن هذا الرجل الظاهرة، المختلف، كان في عمق مبناه ومعناه شديد التحضر ونقى العظمة.

الغوص فى مياه البحر الأحمر، رياضة تمنحه سعادة اكتشاف جمال مصر الخلاب تحت الماء، وقد أكمل الدكتور غنيم هذه الهواية بتصوير أفلام تحت الماء قام فيها بالمونتاج ووضع الموسيقى التصويرية، كأنه فريق سينمائى فى رجلٍ واحد، شغوف ومثابر وعاشق للحق والخير والجمال.

مشاهِد عديدة أتذكرها في مسار متابعتى لهذه الظاهرة التي كانت تمثل إضافة لمناهل الدهشة التي تطيب بها روحى في ذلك العمر وفى تلك السنين، أراه وهو بين المهندسين والعمال وأكوام الرمل وربطات حديد التسليح وشكائر الأسمنت يحمل ما يستطيع حمله كأى عامل في مشروع تشييد مركز الكلى الذي نهض أعجوبة طبية علمية وجمالية وإنسانية فيما بعد. لم يكن أثناء ذلك يعمل ويرقب بطرف عينه الناس منتظراً أن ينظروا إليه. كان يعمل لأنه كان هناك ما يمكن أن يؤديه. مشهد آخر عندما كان يأتى خفيفاً كطيف، كواحد من الطلبة، أو كزائر مجهول، ليقرأ مجلات الحائط التي كنا نكتبها منتقدة أداء منظومة الحكم. وكان يظهر صامتاً ليتأمل بعمق أعمال المعارض الفنية للطلبة ولفنانى المدينة. أما حكايات صرامته وحِدَّته ونجاحه في الإدارة واشتباكاته مع لجاجات اللجوجين، فقد أحببت الإصغاء إليها واستعادتها بمتعة كما لو كانت نوعاً من الإبداع الحى المدهش والمُنعش.

ظاهرة، وليس بمقدور كل آحاد الناس أن يكونوا ظاهرة، ظاهرة لها جوهر خلاق لم أكف عن محاولة بلورته، ظاهرة أصيلة وحية، ومكملة لصورة الجوهر الخلاق الذي تنبع منه. وعندما أسعدنى حظى الإنسانى والجمالى بالاقتراب من هذه الظاهرة، رحت أتيقن مما وصلتُ إليه من تفسيرات لكُنْهها، ولأنها ظاهرة استثنائية، وبناءة، ومطلوبة بإلحاح في دنيانا المصرية، قطعت على نفسى وعداً بأن أنقل ما توصلت إليه في شأنها إلى الناس، ليقينى أنها مفيدة للعباد والبلاد، ولأننى ابن الحكاية، وأحد الشغوفين بسردها، رحت أتحرى ما توصلت إليه، من خلال تعقبى لحكايات مسير ومصير هذه الظاهرة الإنسانية المصرية، إصغاءً، وحواراً، واستفساراً، ومعايشةً للواقع الذي مضت فيه، كيف شكَّلها وشكَّلته، هذا لب الموضوع: كيف تكونت هذه الظاهرة؟

لن أبوح مبكراً بتقرير استباقى عن تشخيص لهذه الظاهرة، وهذا من بديهيات فن السرد، لكننى سأضع من البداية ما يشير بفضول إلى النهاية، ففى ملاحق هذا الكتاب مسرد بالجوائز العالمية والمحلية والتقدير الوطنى والدولى لهذه الظاهرة، وهى جوائز مهمة وبعضها جوائز كُبرى، لكننى كمتأمل شغفته هذه الظاهرة طويلاً، أومئ أن كل هذه الجوائز الكبيرة، بقدر ما هي دالة على كِبَر الظاهرة، تبدو صغيرة للغاية، عند مقارنتها بالجائزة الأكبر التي حققتها مسيرة هذا المصرى الرائع، وهى الجائزة الأهم لبلادى والناس في بلادى. جائزةٌ أكبر لا تُعرِّفنا فقط بمأثرة هذا الرجل، بل تُعرِّفنا بأنفسنا، بعلاقتنا بالوجود، ودورنا تجاه أنفسنا وتجاه الوجود.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية