x

جمال أبو الحسن حرب المائة عام جمال أبو الحسن الأحد 15-05-2016 21:48


صعبٌ ألا تُلاحظ الاستثناء العربى فى العالم المعاصر. مُستحيل أن تغمض العين عن واقع صار يُمثل حالة خاصة فى التاريخ الحديث. الواقع صار مروعاً فى بشاعته. موت وتهجير. تدمير للإنسان وخراب للعمران. المنطقة العربية صارت بقعة من الدم على خريطة الدنيا. أضحت عبئاً ثقيلاً تعيساً على الإنسانية.

الأصعب أن تنظر لهذا الواقع الرث، ثم تعترف بأن شعوبنا وحُكامنا مسؤولون عنه. الأسهل هو أن تختلق رواية أخرى. من هذا الباب بالتحديد دخلت «سايكس بيكو» الجدل السياسى العربى. صارت عنواناً مُهماً، ومحوراً لأى نقاش حول المنطقة. هذا الشهر تحل الذكرى المئوية لصياغة تلك الوثيقة. بمقتضاها اقتسم الإنجليز والفرنسيون مناطق النفوذ فى المنطقة. ظهرت إلى الوجود، بفعل الاستعمار، دولٌ جديدة. العراق والأردن وسوريا ولبنان. وُلدت مُشكلة فلسطين. زُرعت بذور الطائفية والمذهبية فحصدناها اليوم دماً وأشلاء. تلك هى السردية التى نشأنا عليها. حفظناها عن ظهر قلب واقتنعنا بكلِ حرفٍ فيها. ولكن.. ألم يحن الوقت- بعد كل ما جرى- لمساءلتها ومراجعتها، أو على الأقل التشكك فيها؟.

أنقل ما كتبه أستاذنا الفاضل د. أحمد يوسف فى دورية المستقبل العربى (عدد يناير 2016): «ثابرت مؤسسات رسمية فى الدول الغربية، وبالذات الولايات المتحدة، وكذلك مراكز بحثية ووسائل إعلام، على محاولة تعميق المفاهيم السالبة للعروبة لدى أبناء الأمة بما يُعمِّق دواعى الانقسام والتفتيت استناداً إلى أسس طائفية، مع أن هذه الإثنيات- كما يقول على الدين هلال- عاشت لعقود طويلة فى سلام مع بعضها بعضاً، وشارك أبناؤها فى الحركات الوطنية المُطالبة بالاستقلال».

قصدتُ أن أنقل لك هذا الاقتباس من مقال واحد من أهم خبراء وأساتذة الدراسات العربية لأنه يُلخص منهجاً سياسياً كاملاً. هو يُحيل بذرة الخلل وجرثومة التشرذم إلى التدخل الخارجى بشتى صوره، تخطيطاً وتنفيذاً. لدى اقتناع بأن هذه الرؤية لم تعد صالحة لتفسير ما يجرى اليوم. لاحظتُ أن الكثيرين، عندنا وفى الخارج، صاروا أكثر استعداداً للتشكك فى هذه السردية كُلياً. ذكرى «سايكس بيكو» كانت مناسبة لإحياء هذا الجدل.

قرأتُ مقالاً لخبير الشرق الأوسط «ستيفن كوك» فى مجلة «فورين بوليسى» تحت عنوان «لا تلقوا باللوم على سايكس بيكو». المقال يحاول تفكيك الأسطورة التاريخية المتعلقة بهذه الوثيقة. يقول إن ترسيم الحدود فى أعقاب الحروب ليس حالة استثنائية لا سابقة لها. الحال أن أغلب الحدود السياسية فى الدنيا رُسمت بهذه الطريقة التى تأخذ بعين الاعتبار مصالح متضاربة لأطراف متصارعة. يُضيف أن إنشاء هذه الدول الجديدة، وإن جرى بيد موظفى الاستعمار، إلا أنه لم يكن مُنبت الصلة بالواقع السياسى والاجتماعى القائم على الأرض. يصل إلى خلاصة مؤداها أن الحدود فى حد ذاتها ليست السبب وراء النزاعات التى تشهدها المنطقة اليوم.

فى نفس الاتجاه، قرأت مدونة أخرى رائعة لماجد عطية (المثقف المصرى الأمريكى المُخضرم الذى يكتب تحت اسم سلامة موسى). فى المدونة تقصٍ تاريخى لقصة «سايكس بيكو» كمحاولة إنجليزية/ فرنسية للتعامل مع الفوضى المحتومة التى نشأت عقب تفكك الإمبراطورية العثمانية. يعتقد عطية أن «الدراما» التى أسبغناها فيما بعد على الوثيقة كانت اختراعاً من اختراعات القومية العربية. هذه الأخيرة كانت فى حاجة لمؤامرة كبرى تؤسس عليها أيديولوجيتها الجامعة.

والحال أن «سايكس بيكو» تاريخ مُهم. ليس لأنه بداية المؤامرة الكبرى، ولكن لأننا لم نُغادره بعد. فى هذا التاريخ بدأت حرب المائة عام. الحرب من أجل بناء دول الاستقلال. بهذه المناسبة، أعدت الإيكونوميست ملفاً خاصاً موسعاً عن المنطقة العربية تحت عنوان «الحرب فى الداخل». الجملة/ المفتاح فى هذا الملف هى أن العالم العربى لم يتجاوز إلى اليوم انهيار الإمبراطورية العثمانية. الدولة الوطنية لم تستقر. لم تؤسس شرعيتها. الأيديولوجيات السائدة مازالت عابرة للأوطان: العروبة والإسلام السياسى والإسلام الجهادى. الصراع الرئيسى يعتمل بين ظهرانى الحضارة العربية ذاتها وليس بينها وبين عدو خارجى.

الأزمة الكُبرى هى أزمة شرعية. الجمهوريات أسست شرعيتها على تحرير فلسطين وتحقيق الوحدة العربية، وفشلت فى الأمرين. القمع البوليسى، وأكثر تجلياته بشاعة فى سوريا والعراق، صار البديل. الملكيات- على مشاكلها- حالها أفضل. أساس الشرعية فيها تقليدى. فى المغرب والأردن أظهر الحكم تسامحاً أكبر مع المعارضة. الأخيرة تُقر بقواعد اللعبة، وعلى رأسها شرعية الملوك.

الفشل الأفدح كان فى الاقتصاد. أموال النفط، التى تسربت فى شرايين المنطقة كلها، غطت لسنوات طوال على هذا الفشل المُزمن. القطاع العام فى الدول العربية ليس سوى إعانة بطالة مقنعة. يُشير ملف الإيكونوميست، مثلاً، إلى حالة مصر التى تبنت نموذجاً اقتصادياً تقوده الدولة. يضرب مثلاً بصناعة القطن التى أنشأها عبدالناصر فى المحلة، وكيف انهارت أمام المنافسة العالمية بعد تحرير تجارة المنسوجات. مصر لم تستطع الإمساك بلحظة العولمة. إصلاحها الاقتصادى غير المُكتمل والمرتبط بالمحسوبية أفرز سخطاً أكبر لدى الشباب ومهد ليناير 2011.

بخلاف الاقتصاد، هناك مُعضلات تتعلق بموقع الدين فى السياسة. بالصراع داخل العالم السنى على تفسير الإسلام، وبالنزاع بين السُنة والشيعة. العقبة الأولى أمام الديمقراطية هى الخوف من الإسلاميين. العقبة الثانية هى التنوع الطائفى. التقسيم ليس حلاً لهذا التنوع، بل ربما يخلق صراعات أشد. داعش ليست مؤامرة. هى نتاج منطقى للانسحاب الأمريكى من العراق والحرب الأهلية السورية وسياسات نورى المالكى التى همشت السنة.

تقول الإيكونوميست: «الأطراف الخارجية ليس بمقدورها أن تجد علاجاً للصراع داخل الحضارة العربية، وذلك برغم أن تحركاتها يُمكن أن تجعل الأشياء أفضل قليلاً أو أسوأ كثيراً. أولاً، وقبل كل شىء، لابد أن يأتى الحل من العرب أنفسهم».

تلك هى الحرب الحقيقية التى تحتدم من مائة عام، ومازالت. تلك هى الحرب التى خسرناها.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية