x

جمال أبو الحسن فيسبوك جمال أبو الحسن الأحد 01-05-2016 20:37


سُئل واحدٌ من أنجح رجال الأعمال الشباب فى مجال تكنولوجيا المعلومات عن سر نجاح شركته. أجاب الشاب بأنه التقط «سر الصنعة» خلال أشهر قليلة قضاها فى شركة «فيسبوك» فى بداية نشأتها. قال إنه تعلم خلال هذه الشهور معادلة كفيلة بإنجاح أى مشروع. المعادلة بسيطة للغاية: أن تُحدد هدفاً واحداً لمشروعِك. هدف واحد فقط لا غير. هدف يصير «مسطرتك» التى تستخدمها فى قياس أى فكرة أو عمل أو اقتراح أو مبادرة. هكذا لا تختلط الأولويات أو تتزاحم الغايات. رجل الأعمال الشاب قال إن «زوكربرج»- مؤسس فيسبوك الأسطورى- كان يتحدث دوماً عن هدف وحيد كبوصلة هادية لكل سياساته وقراراته: نمو الشركة عبر زيادة عدد المُشتركين فى الشبكة الاجتماعية.

هذا الهدف يُلخص بالفعل استراتيجية «فيسبوك». من اليوم الأول ظهر أن هم «زوكربيرج» لا ينحصر فى الربح السريع. لم يهرول وراء الإعلانات. أدرك أن فيسبوك، كموقع للصداقات، عليه أن يكون هو أيضاً صديقاً لمُشتركيه. خفيفاً على قلوبهم. أن يبدو مثل هؤلاء الأشخاص المُبادرين إلى تنظيم الرحلات والتجمعات، دون أن يبغوا من وراء ذلك سوى المتعة للجميع. لا مصلحة مُباشرة. لا سعى محموم وراء الربح والبيزنس. هكذا تسرب فيسبوك إلى حياتنا اليومية. بهدوء وحميمية ويد ممدودة للوصل والصداقة.

الصداقة؟ هل صحيح أن الصداقة هى المُحرك الرئيسى وراء نجاح فيسبوك وازدهاره واستمراره؟ لا أظن. سبق فيسبوك عدد من الشبكات الاجتماعية المُماثلة أشهرها Myspace. جميع هذه الشبكات صارت اليوم نسياً منسياً. سببٌ ما جعل فيسبوك شيئاً مختلفاً. سببٌ ما يُحرِّض 1.6 مليار إنسان على ظهر البسيطة على استخدام فيسبوك شهرياً. يُجادل كاتب السطور بأن المُحرك الرئيس لنشاط فيسبوك والعامل الحاسم وراء شعبيته الكاسحة لا يكمن فى قيمة الصداقة، وإنما فى خصلة أخرى ذميمة وبغيضة: النميمة!.

يعتقد بعض العلماء أن النميمة كانت سبباً فى نشأة اللغة وتطوير الوعى البشرى. أهم المعلومات التى احتاج إليها الإنسان الأول كانت تتعلق بأقرانه فى الجماعة الصغيرة أو القبيلة. واقع الحال أن أكثر وقتنا نقضيه فى النميمة، أى الكلام مع أشخاص عن أشخاص آخرين. السعى إلى معرفة «قصص الآخرين»- وبخاصة القريبين منا- يعكس رغبة طاغية لدينا تقترب من الغريزة. فيسبوك يستغل هذه الغريزة البشرية. ينظمها ويبتدع وسائل أسهل وأكثر جاذبية لممارستها.

فيسبوك يُساعدنا فى تعقب أخبار دائرة معارفنا، حتى ولو لم نكن نجتمع بهم إلا لماماً فى العالم الواقعى. هو أيضاً يهيئ لنا متابعة أفكارهم ورؤاهم فى الشؤون العامة عبر تتبع ما يكتبونه على صفحاتهم أو صفحات الآخرين. إنه ساحة مفتوحة لممارسة النميمة على نطاق واسع، وغير مسبوق. الأدوات التى يزودنا بها فسبوك تهدف إلى تسهيل عمليات تبادل المعلومات- عن بعضنا البعض- وتوسيع مداها إلى أقصى حد ممكن. بضغطة بسيطة يُمكن أن تقول رأيك فى أى موضوع، إعجاباً أو مشاركة أو تعليقاً. رأيك هذا يصير بدوره «معلومة» جديدة متاحة للآخرين. فى مقدورهم البناء عليه أو استخدامه أو الاشتباك معه. هذا الفيض من المعلومات هو ما يجعل فيسبوك مختلفاً عن أى شىء عرفناه. شركة فيسبوك لديها من المعلومات عن مُستخدميها واتجاهاتهم وميولهم ومستوياتهم الاقتصادية (أبسط مؤشر هو نوع الهاتف الذى تستخدمه) ما لم يجتمع لأى شركة أو كيان آخر عبر التاريخ. هذه المعلومات لم تأتِ عبر استطلاعات للرأى- كتلك التى تُجريها شركات الإعلان مثلاً- وإنما من خلال الممارسة الحُرة للنميمة!.

ليس غريباً، والحال هذه، أن تكون فيسبوك سادس شركة فى العالم من حيث القيمة السوقية (قيمتها 325 مليار دولار). فضلاً عن الإعلانات التى يضعها فيسبوك على Newsfeed، فإنه يوفر مصدر معلومات لا غنى عنه لشركات الإعلان التى تسعى لاستهداف عينات مُحددة من المُستهلكين. يُقال إن الخطوة القادمة هى مزيد من التوسع لفيسبوك ماسنجر ولـ«واتساب» (الذى اشترته فسبوك أيضاً بـ22 مليار دولار فى 2014). ربما يجرى فى المستقبل فرض تعريفات على الخدمات التُجارية والمُعاملات التى تجرى عبر هذه المواقع للرسائل المجانية. منطق عمل هذه التطبيقات كلها يكمن فى تكوين قاعدة ضخمة من المُستهلكين أولاً، ثم البحث لاحقاً عن طريقة لتحقيق نفع تجارى من وراء ذلك. هناك ما يضمن توسع قاعدة المُشتركين باستمرار. لن يأتى يومٌ يتوقف فيه البشر عن النميمة!.

ولكن هل تقود هذه النميمة إلى تعميق معارفنا؟، هنا يكمن الوجه الآخر، المراوغ والمُلتبس، لفيسبوك. ثمة فرق هائل بين النميمة والمعرفة. النميمة، بالطبع، تنطوى على معلومات وأخبار وأفكار. لا شك أن بعض هذه المعلومات قيمٌ ونافع. على أن المعرفة شأنٌ آخر. هى لا تتحقق- فقط- بممارسة الدردشة العلنية. لا يُمكن الحصول عليها من خلال تجميع ما «يقوله الآخرون» فى شأن من الشؤون. تراكم المعرفة مُستحيل من دون بحث مُستقل. لهذا السبب بالتحديد، فإن قراءة الجرائد تختلف عن تصفح فيسبوك. عندما تطالع الجريدة- أو المجلة أو الكتاب- فأنت تبحث بنفسك عن المعلومات والأخبار والآراء. تبذل جهداً فى تحصيل المعرفة، توطئة لتكوين رأيك الخاص. أما فى حالة فيسبوك فأنت ترى الأمور كلها بعيون الآخرين من «أصدقاء صفحتك».

فيسبوك، كوسيط للنميمة، يلغى الحاجة لأصحاب الرأى من الراسخين فى العلم. كلنا على فيسبوك سواء على نحو ما. المكانة لا تُكتسب بواقع تخصصك أو تبحرك فى موضوع بعينه، وإنما بواقع تأثيرك وجاذبيتك وعدد مُتابعيك. ها هنا تكمن الخطورة الحقيقية لفسبوك كساحة للتعبير عن المواقف السياسية. صحيح أنه أداةٌ يعرف من خلالها الناس معلومات أكثر عما يجرى، ولكنها- بسبب تكوينها- لا تُساعدهم فى تكوين معرفة أكثر عمقاً أو تبنى آراء أكثر استقلالية.

لقد نجح «زوكربيرج» فى تحقيق هدفه الاستراتيجى لأن عينه كانت دائماً على ما يريده العدد الأكبر من الناس: النميمة لا المعرفة!.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية