x

جمال أبو الحسن ماذا يحدث إذا انهارت أمريكا؟ جمال أبو الحسن الأحد 08-05-2016 21:19


إنها القوة الأعظم فى تاريخ الإنسانية منذ الإمبراطورية الرومانية. لم يحدث أن توفر لأمة من عوامل القوة والتفوق والتأثير على الآخرين ما توفر للولايات المتحدة الأمريكية منذ النصف الثانى من القرن الماضى وحتى اليوم. مع ذلك، فالتاريخ ليس سوى قصة لصعود الأمم وانهيارها. إنه دورة طبيعية، كدورة النمو الإنسانى من الطفولة إلى الشيخوخة مروراً بالفتوة والفحولة. ماذا يحدث إذا انهارت الولايات المتحدة؟ أى عالم ستخلفه وراءها؟

الولايات المتحدة هى التى «صنعت العالم» الذى نعيش فيه. هى التى صاغت قواعد عمله، ورسمت هيكله وطريقة دورانه. نأخذ الكثير من الأشياء من حولنا كمسلمات لأننا اعتدنا عليها. اعتدنا سلاماً مديداً دون حروب بين القوى الكبرى. هذه ظاهرة تكاد تكون غير مسبوقة فى التاريخ المعاصر. القرون السابقة شهدت حروباً ضارية بين القوى العظمى المتطاحنة. لستين عاماً استمر هذا السلام الذى ترعاه الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. اعتدنا الازدهار الاقتصادى أيضاً. منذ الخمسينيات وحتى اليوم ينمو الاقتصاد العالمى بمعدل 4% سنوياً. فى العصور التاريخية السابقة لم يكن النمو يتجاوز 1% سنوياً. اعتدنا تحركاً مستمراً صوب الديمقراطية، حتى وصل عدد الدول الديمقراطية إلى 123 دولة فى 2005 بعدما لم يكن يتجاوز 12 دولة بنهاية الحرب الثانية. الاعتياد على هذا العالم يجعلنا ننسى أنه لولا هيكل وطبيعة النظام الدولى الحالى ما كان ازدهاراً ولا انتشرت ديمقراطية ولا عمّ سلام!

عالمنا ليس مثالياً، ولكنه قفزة هائلة للأمام بالمقارنة بالقرون السابقة. عوامل كثيرة ساعدت على تطور العالم فى اتجاه الاقتصاد الحر والديمقراطية والسلام. النمو التكنولوجى والتجارة والاعتماد المتبادل بين الدول، كلها ظروف ساعدت على تكوين عالمنا المعاصر. على أن العامل الحاسم تمثّل فى الهيمنة الأمريكية. هذا هو جوهر الرؤية التى يطرحها خبير العلاقات الدولية الأشهر «روبرت كاجان» فى كتابه «العالم الذى صنعته أمريكا» The world America made (صادر فى 2012). قد يكون مفيداً الإطلال على مثل هذه الأفكار فى هذا التوقيت بالذات. العالم يمر- كما يبدو- بمخاض صعب. الولايات المتحدة مُحرك أساسى للأحداث الكبرى، سواء بالفعل أو الامتناع عن الفعل.

عبر التاريخ، لعبت القوة الدولية المهيمنة فى كل عصر الدور الأكبر فى تشكيل النظام العالمى فى زمنها. بل إنها كانت تؤثر على الطريقة التى يفكر بها الناس، والتى يقيسون بها شرعية حكامهم. نمو الديمقراطية فى العقود الأخيرة لم يكن وليد اعتناق الناس لأفكار الحرية والليبرالية. بل لأن القوة المهيمنة تبنت الديمقراطية. الأمر ذاته ينطبق على اقتصاد السوق المفتوحة. النظام الاقتصادى العالمى الحالى هو صنيعة الإمبراطورية البريطانية التى أمنت طرق التجارة بأساطيلها البحرية المتفوقة عندما كانت سيدة البحار فى القرن التاسع عشر. تسلمت الولايات المتحدة الراية من بريطانيا. إحدى الركائز الرئيسية للهيمنة الأمريكية فى عالم اليوم هو قيامها على أمر حماية الممرات البحرية العالمية. حتى فى عصر التكنولوجيا الرقمية وثورة المعلومات، مازالت هذه الممرات المعبر الرئيسى للتجارة الدولية فى المواد الخام والطاقة والغذاء. هذا الاقتصاد العالمى القائم على التجارة الحرة هو أيضاً صنيعة الولايات المتحدة. مصلحتها، كجزيرة منعزلة كبريطانيا، حتّمت اعتناق فلسفة السوق العالمية المفتوحة.

أمريكا تمارس نفوذها بقبول من القوى الأخرى. هى تقدمت على المسرح الأوروبى بعد الحرب الثانية بدعوة من القوى الأوروبية نفسها، ولمنع تكرار الحروب فيما بينها. هذه القوى اطمأنت لبعد أمريكا الجغرافى وغياب أطماعها الاستعمارية وتبنيها نهجاً ديمقراطياً فى القيادة. استخدام أمريكا للقوة العسكرية اكتسب شرعية معينة. بعكس روسيا التى ذهبت للحرب وحيدة مرتين فى العقود الأخيرة (أفغانستان وجورجيا)، فإن الولايات المتحدة لا تذهب للحروب إلا بحشد دولى. أمريكا لديها خمسون حليفا عسكريا رسميا. الصين ليس لديها حليفٌ رسمى واحد.

هذا هو العالم الذى صنعته الولايات المتحدة، فماذا تكون صورته فى غيابها؟. ليست هناك قوة واحدة قادرة على أن تملأ مكانة الولايات المتحدة. الأغلب أن قوى متعددة ستملأ الفراغ الذى سينشأ عن تراجع مكانتها كقوة عظمى مهيمنة. هل تستطيع هذه القوى أن تلعب نفس الدور؟ هل يمكنها مثلاً حماية الممرات البحرية الدولية؟ أى قواعد ستسود النظام الدولى؟ هل تمارس هذه الدول قيادتها للنظام فى تناغم، أم تنافس؟. الاحتمال الثانى- كما يُشير كاجان- هو الأغلب. تعدد القوى فى قمة النظام غالباً ما يقود إلى الصراع والتنافس. ذاك هو درس التاريخ. الأخطر أن القوى المرشحة لخلافة الولايات المتحدة، مثل الصين وروسيا، لن تهتم بفكرة السوق الدولية المفتوحة، وحماية حرية التجارة. ستتجه أكثر، وبحكم نظمها الاقتصادية القائمة على تدخل الدولة، إلى الحماية وإغلاق الأسواق. السبب فى تراجع الحروب بين القوى الكبرى لا يعود لنزوع فطرى للسلام لدى الإنسان المعاصر، وإنما لوجود قوة مهيمنة تفرض هذا النظام الذى اعتبرته القوى الأخرى- حتى الآن- فى مصلحتها. الاستقرار الحالى للنظام لا يعنى أن العالم ليس بحاجة لشرطى، بل يؤكد أن الاستقرار لم يكن ليتحقق سوى فى وجود هذا الشرطى!

رؤية «روبرت كاجان» مثيرة للجدل، ولكنها تستحق التأمل. قراءة مصائر القوى الكبرى عمل صعبٌ ومراوغ للغاية. هو يستلزم منظوراً تاريخياً كلياً، وليس التسرع فى قراءة مؤشرات طارئة أو حوادث عارضة. يدفعنا ذلك للتفكير بطريقة مغايرة فى دلالة أحداث داهمتنا فى الفترة الأخيرة، مثل أزمات أوكرانيا وروسيا، التى اعتبرها البعض مؤشراً لتراجع أمريكا وبزوغ نجم روسيا. أكثر من ذلك، الكتاب يحرض قارئه، وبغض النظر عن موقفه من الولايات المتحدة، على تدبر هذا السؤال بشكل عملى: هل سيصبح العالم أفضل أم أسوأ فى غياب الهيمنة الأمريكية؟

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية