ظاهرة غريبة، ولافتة للنظر، اكتشفتها ليس الآن فقط، ولكن من سنوات عديدة ماضية.. هي أن معظم أبناء وأحفاد كبار الزعماء والساسة ورجال السياسة ابتعدوا عن العمل السياسى.. بعضهم «هاجر إلى الداخل «أى تقوقعوا على أنفسهم تماماً وأكثرهم هاجر إلى الخارج، أي خارج الوطن كله الذي أفنى آباؤهم وأجدادهم حياتهم عشقاً وجهاداً ونضالاً من أجله، وقدموا كل عمرهم وثرواتهم.. وعرقهم في معارك عظيمة من أجل الوطن.. لماذا فعل الأبناء والأحفاد ذلك.. لماذا قرروا الابتعاد- تماماً ــ عن أي عمل سياسى.. أو وطنى؟!
هذا السلوك- غير العاطفى- تابعته من سنوات بعيدة.. من خلال متابعتى، بل شغفى بقراءة صفحات الوفيات في الأهرام ربما بحثاً عن هذه الأسماء اللامعة التي ضحت بكل شىء.. ووجدت كل ما هو غريب وعجيب.. بل ولافت للنظر.
هل السبب هو ماعاناه الآباء والأجداد من سجن واعتقالات ومصادرة أموال وأطيان، ومن تشويه لهذه الأسماء العظيمة.. أم السبب هو إحساس الأحفاد بمدى الغبن والمعاناة والمطاردة التي عانت منها كل هذه الأسر.. سواء من مطاردة المنافسين السياسيين.. أو مطاردة السلطة نفسها.
وأتذكر هنا كلمات مازالت ترن في عقلى وتهزه هزاً سمعتها من كريمات فؤاد باشا سراج الدين.. وأيضاً من شقيقه يس بك سراج الدين، وقبله شقيقه الذي يلى ــ في العمر ــ الابن الأكبر فؤاد باشا.. وهو عبدالحميد بك سراج الدين الذي فضّل الابتعاد عن السياسة واختار أن يصبح عمدة لكفر الجرايدة بكفر الشيخ الآن.. ولكنه عاد للحنين إلى السياسة، ولكن من باب الاقتصاد، فقرر أن ينشئ بنكاً مصرياً هو بنك القاهرة في أول الخمسينيات وزاره عبدالناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة بعدها.. ولكنه فوجئ بتأميم البنك وتأميم ممتلكاته هو شخصياً.
وقالت لى كل كريمات فؤاد باشا: كفانا ما حدث لنا من تأميم ومصادرة وسجن للرجال.. وإذلال للنساء.. ودعونا نعيش!! سمعت ذلك وأكثر من كريمات آخر باشوات مصر العظام، وهن ثلاث كريمات رحلن عن الدنيا بعد ذلك.
هل كان هذا الابتعاد سببه المعاناة والمطاردة والتشويه الرهيب لتاريخ كل هؤلاء.. وتشويه الأسر كلها؟! أقول: نعم ثم نعم.
واللافت للنظر أن معظم أبناء الساسة الذين كان آباؤهم ملء السمع والبصر قد هاجروا خارج البلاد.. وانتشروا في بقاع الأرض حتى وإن تواروا عن العيون.. ليمارسوا حياتهم العادية، ومن يتابع نشرات الوفيات يجد الكثير مما يؤكد ما أقول.. من انتشار أفراد هذه العائلات في أمريكا وكندا.. وألمانيا.. وبريطانيا.. وبراغ ودول الخليج، التي هرب إليها الكثير من كبار هؤلاء الساسة أنفسهم.. ومعهم أولادهم، بل حصلوا على جنسيات أخرى غير المصرية.. بعيداً عن الأضواء.. حتى أبناء وأحفاد رجال الدين، ومنهم من كان كبيرهم شيخاً للأزهر مثل الشيخ محمود شلتوت وأصبح حفيده مستشاراً علمياً لوزارة الخارجية الأمريكية وزوجته مستشارة لشركة كبرى للأدوية ومديرة بأمريكا.. وهل ننسى الدكتور هانى ابن محمود فهمى النقراشى الذي قتله الإنجليز في ديسمبر 1948.. فهاجر الابن وعاش وحصل على الجنسية الألمانية، وأصبح واحداً من أكبر علماء الطاقة الشمسية في العالم؟!
■■ بل وأتذكر ما قاله لى آخر باشوات مصر الكبار «فؤاد باشا» من أنه عرض رئاسة حزب الوفد «الجديد» عام 1978 على السياسى البارز إبراهيم باشا عبدالهادى الذي كان رئيساً للوزراء، ورئيساً للديوان الملكى.. وكان زعيماً للطلبة الوفديين خلال ثورة 19.. ولكنه رفض، وكذلك الدكتور محمد صلاح الدين باشا الذي كان وزيراً لخارجية مصر بين عامى 1950 ــ 1952 وهو الذي أعد ترتيبات إلغاء معاهدة 1936، ولكنه فضل الهجرة إلى الكويت وأصبح مستشاراً لحكامها.
■■حقاً: لقد كفر الأبناء والأحفاد بالنضال السياسى.. بسبب ما عاناه الآباء من مطاردة وتعنت وحياة في المعتقلات.