على ذات الألم.. «كيف ضاعت الحواضر»..!
أتابع وتتابعون.. أعتقد بقدر لا بأس به من الدهشة والذهول التى تصل إلى حد الغثيان.. حالة جديدة تلبست بعضاً من أبناء هذا الوطن على غير ما فُطِرَ عليه البشر..!
أما تلك الحالة- والجديدة على البشر- فهى «المباهاة» بالتسليم النفسى- قبل القبول الفعلى- بالتنازل عما عرفناه أرضاً لنا.. واصطلحنا على تعريفه- «بعض من وطن»- بثلاثة أجيال متعاقبة واعية على الأقل..!
أما المذهل.. فهو الإمعان فى الحفاوة بضياع ما وعيناه أو افترضناه «وطناً حاربنا فى سبيله».. لدرجة الاحتفال الراقص بأعلام دول أخرى.. برعاية رسمية ومباركة رسمية..!!
دعونا من قشرة الغطاء القانونى وتلَبُّس مسوح العدول الزاهدين.. ودعونا من الذهاب بدروب المكايدة السياسية إلى منتهاها إلى حد انحدر بها إلى غير سابق.. فإن تلك الحالة قبل أن تكون مثيرة للتأمل والدهشة.. أو للذهول.. فهى مُنذِرة.. بأننا نستحدث فى بلادنا- عُنوة- كائنات جديدة قد تتجاوز «الديوث الوطنى» إلى ما هو أدنى.. وهم مَن ينكرون على المصريين «غِيرَةً» مشروعة بَدَت لأجل حُرمةِ أرض وعِرض، بل يؤثمونهم عليها..!
وإن كنت لا أعرف لذلك اسماً.. فإنى أعرف أن ثمنه فادح!
وبعيداً عن محاولات تلبيس القضية بعضا من منطق تقودها إلى حديث الوثائق والقانون الدولى فى مجتمع لا يعتد بالقانون والوثائق كثيراً.. ورغم احترامى التام وحرصى، بل غيرتى على تسييد القانون وحجية الوثائق.. فإن ما نناقشه ليس إطار الحجية القانونية لبشر متزن يناقش قضاياه بوعى.. ما نناقشه أننا باسم «المنطق» نقتل «العقل».. وباسم «الوطنية» نقتل «نخوة الوطن» فى النفوس.. وقبل ذلك وبعده نهدم معايير اتزان المجتمع وندفعه إلى القبول بالجنون.. بل تقديسه..!
ما نُحَذرُ منه أننا نرفع «لواء الجنون» لأجيال قادمة نُعَلمُهَا أن تعريف «الفطرة والنخوة والوطنية» وحتى «القداسة» هو رهن ليمين صاحب السلطان..!
وما ضاعت دول منا- تدمى لها «قلوب العدول» وإن تاجرت باسمها «ألسنة المتنطعة والغلاة»- كالعراق وليبيا وسوريا.. إلا حين رفعت تلك الحواضر الشقيقة لواء الجنون ذاته.. فسلمت شعوبها قياد عقولها لكل صاحب سلطان.. فتقلب قيادها بين أصحاب سلطان الطائفية والمذهبية والعصبية والتطرف..!
فبعد أن أرادها مَن ملكوها لأنفسهم.. كانوا كمَن حرثوا العقول لنبت غيرهم.. فضاعوا وضيَّعوا..!
على ذات الألم.. «الوعود والعهود»..!
حين اجتمع أبوعبدالله الأحمر- آخر ملوك الأندلس- ببلاطه قبل سقوط غرناطة.. جعل يعدد للبلاط ما فى تسليم غرناطة للقشتاليين من فوائد.. وما أكدوه له من حفظ أقدار أبناء غرناطة ومقدساتهم.. وعَدَّدَ بحديث الواثق كيف ضَمِنَ من القشتاليين أن يبقى الأذان مرفوعاً فى مآذن غرناطة كشرط من شروط التسليم..
وافق بلاط بنى الأحمر كلهم.. إلا رجل اسمه «موسى بن أبى غسان» رفض.. ليس نكاية فى بنى الأحمر، ولكن ليقينه بأنه فى لعبة الهيمنة.. لا بقاء لعهود ولا لوعود.. البقاء فيها للأقدر على حماية مقدراته وأرضه..!
وفى زمن قريب مضى.. ومصر لم تكن تحيا فيه بمظنة المؤامرات ولا بتدليسها، ولكنها كانت ضحية مؤامرة مكتملة الأركان انتهت بهزيمة ثقيلة عام 1967.. وكان العالم كله يضيف إلى جرحها الإهانة بقرار اسمه القرار «242» لتسوية النزاع مع إسرائيل.. كانت إسرائيل تراوغ والغرب معها يراوغ.. كان الغرب يقول: إسرائيل «تحترم» القرار.. وكانت مصر الرسمية لا يهمها إن احترمت إسرائيل القرار أو حتى ادَّعت تنفيذه.. مصر الرسمية كانت تعرف أن الأرض حق والحق تحميه القوة وليس رطانة المحافل الدولية فى شأنه..!
هذا ما عرفته مصر الرسمية حينها عن السياسة الدولية.. وما عرفناه قبل مصر الرسمية عن حقوقنا.. وهو ببساطة أن أرضنا بالثابت التاريخى لنا.. فلتقل إسرائيل ما تشاء وليقل غيرها ما يشاء..!
على ذات الألم.. «البيروقراطية وحديث الوثائق»..!
«البيروقراطية»- فى مصر- دين باطنى يغالب عقائد السماء فى نفوس معتنقيه.. لها أرباب تُرجى.. لها كهنة وسدنة ومعابد.. لها عقيدة بحلالها وحرامها.. لها منظومة قيم وشعائر تُقام.. دين باطنى قتل معنى الحياة فى مصر..!
المرؤوس لا يُيَمِّمُ وجهه إلا شطر وجه رئيسه.. ولا يرجو رضا إلا رضاه..!
الحلال والحرام البيروقراطى مرهون بأدب المرؤوس فى حق رئيسه.. لا صلة له بإنجاز فى حق مجتمع ولا بصلاح أو بفساد ذمة أو ضمير..!!
دين بيروقراطيتنا.. النفاق فيه هو النسك.. والفساد شعائره..!
«بير» البيروقراطية- فى مصر- غويط..!
كبير بكبر المجتمع والدولة.. جُبّ سحيق أُلقى فى غَيَابَتِه كثير من العالميِن.. يُشرف سدنته- كل يوم.. بقصد أو بغير قصد- على ألا يخرج من ذلك الجبِّ أى «حفيظ عليم» يستطيع أن يكون على خزائن الأرض «مصر» أو مؤسساتها.
ولكن أخطر ما تشى به لحظة الحقيقة أنه لأول مرة فى تاريخنا.. يكون «حُكم الإدارة» فى مصر- فى أغلبه- من رحم البيروقراطية و«فقط».. بلا سابق عهد بثقافة أو فكر أو سياسة.. إلا من موقع المتلقى المشاهد فى أغلب الظن.. وبلا انفتاح خارج صندوق الوظيفة صاحب ثقافة «حاضر ونعم بتريح».. و«كله تمام سيادتك».. أو معرفة بغير دروب النكاية الوظيفية ومسالك الأمن الوظيفى..!
وحين وصف لنا الساخر الكبير «أحمد رجب» رحمة الله عليه.. البيروقراطية فى روايته الشهيرة «الوزير جاى».. صَوَّر لنا كيف رفض «جعدار بك»، رئيس المصلحة التى يعمل فيها «الزعتراوى أفندى».. أن يقر بحقيقة وفاة الزعتراوى.. أو أن يغير فى دولاب العمل على أثر وفاة الرجل.. لا لشىء إلا لغياب الوثيقة..!
«أنا لا أحترم ولا أصدق إلا الأوراق الرسمية.. ولذلك أنا مازلت مُصِرّا أن الزعتراوى حىّ.. ما متش..!».
«أنا صحيح حضرت غُسله بنفسى.. ومشيت فى جنازته.. ولكن الزعتراوى ما متش.. لأنه لم يصل إلينا أى أوراق رسمية كشهادة وفاة أو إعلام وراثة أو ما شابه تؤكد.. أنه مات.. والعكس صحيح..!!».
كانت تلك هى كلمات كاهن البيروقراطية «جُعدار».. كما ساقها بسخرية الفلاسفة.. الراحل الكبير أحمد رجب..!
الجمود البيروقراطى.. يكيف فهمه للحياة وفقاً لهواه وباسم الأوراق والوثائق.. حتى إنه يَحُج حقائق الحياة نفسها باستدلاله الذى يريد من واقع أوراق..!
وإن كنت لا أعرف وثائق رسمية يُكتب فيها وجدان الشعوب.. ولا وثائق أخرى تعطى لحجية التاريخ أو لضرورات المستقبل خاتم الاعتماد.. وإن بدا هذا كافياً للبعض كى يظن أو يطمئن أن الغلبة ستبقى لشعائر البيروقراطية على حجية العقل والمنطق.. أو أن جمودها سيقصم ظهر كل إبداع تحتاجه حياتنا.. بل يقصم ظهر حياتنا قبله..
حتى وإن ظنوا أو اطمأنوا.. ما أعرِفُهُ أن هذا لن يكون..!
فَكِّرُوا تَصِحُّوا..