من منا لم يذق الأمرين فى مناسبة أو أخرى فُرض عليه فيها أن يتعامل مع واحد أو أكثر من الحرفيين المتخصصين فى إحدى الصنايع التى نحتاج إليها كلنا تقريبا: (بنّاء، نجار، حداد، نقاش، كهربائى، سباك... إلخ)، من منا لم يخض تجربة إيهامه من جانب صنايعى معين بأنه (أى الصنايعى) سوف يتفرغ تماماً للمهمة المطلوبة إلى أن ينتهى منها بإذن الله فى الموعد المحدد، وربما قبله بقليل.. وربما شرع الصنايعى فعلاً فى العمل بهمة ونشاط يوما أو يومين فى بداية التوقيت المتفق عليه لكى يُفاجأ صاحب الشأن بعد ذلك بأن الصنايعى متعاقد فعلاً مع زبون آخر على التفرغ لحسابه لنفس الفترة بالضبط!، أو لفترة متقاطعة مع الجزء الأكبر منها، وما اليوم أو اليومان اللذان كان يعمل فيهما بهمة ونشاط ما هما إلا يومان تغيّب فيهما عن الزبون الآخر!!، وربما يتبين أيضا بعد حين أن الصنايعى قد أوهم ثلاثة أو أربعة آخرين، وأحيانا عشرة أو أكثر من الزبائن، بأنه متفرغ لكل منهم عن نفس الفترة، بينما وقته فى حقيقة الأمر موزع بينهم جميعا لا يحظى أى منهم بأى أولوية (اللهم إلا إذا كان الزبون بالمصادفة من ضباط الشرطة أو من مأمورى ضرائب المهنة التى ينتمى إليها الصنايعى!!).. وهكذا تتضاعف المدة المقدرة لإتمام المهمة إلى عدد من الأضعاف يساوى فى أغلب الأحوال عدد الزبائن الذين توهم كل منهم فى البداية أنه الزبون الوحيد!!، ومن الطبيعى أن معامل التضاعف سوف يبلغ أقصاه لدى نوعية معينة من الحرفيين هى تلك النوعية التى اشتهرت بالمهارة فى مجالها لكنها لم تنشأ على ثقافة ترتيب الزبائن طبقا لأسبقية كل منهم فى الحجز، ومصارحة كل زبون بالموعد الذى سوف يحل فيه دوره ولو بشكل تقريبى، ثم تخييره بين الانتظار واللجوء إلى صنايعى آخر، ولكنها نشأت على ثقافة مختلفة هى الأكثر شيوعا للأسف فى مصر بوجه عام، وفى صعيدها بوجه خاص!!، وهى الثقافة التى تقوم على الترحيب بأى وافد جديد أياً ما كان عدد الزبائن المرتبط بهم فعلا، مع محاولة التوفيق بينهم من خلال إعطاء مواعيد وتوقيتات لا يتم الالتزام بها أبدا!!، بكل ما يترتب على ذلك من إرباك لمواعيد العميل، وما يتولد عنها بالتالى من إرباك لكل من يتعامل معهم، وإرباك متسلسل لكل من يتعامل مع واحد من المتعاملين! وهلمّ جرا، وهو ما سينعكس حصاده النهائى على المجتمع ككل.. لسنا هنا فى مجال تفسير أسباب شيوع تلك الثقافة بين شرائح كثيرة من الصنايعية، ولكننا فى مجال لفت الانتباه إلى أن المهارة ليست هى كل ما ينبغى أن نطلبه من أى منتج، ولكن الأمانة مطلب لا يقل أهمية، وما الثقافة التى تكلمنا عنها منذ قليل إلا هدم لمقتضيات الأمانة وتنكر لها، إذ إنها فى جوهرها بيع لنفس الشىء مرتين أو أكثر (محل البيع هنا هو التفرغ لمدة محددة لأداء خدمة محددة)، صحيح أن تغيير ثقافة ما، مهما كان فى تلك الثقافة من جوانب سلبية، لا يتحقق بين يوم وليلة حتى لو توافرت إرادة التغيير، لكن تغيير التشريعات القائمة قد يكون عاملا من عوامل الإسراع فى التغيير، وعلى هذا فإننى أهيب بمجلس النواب الحالى أن يكون من بين جدول أعماله مشروع تشريع ينص على أنه يعاقب بالعقوبة المقررة لجريمة النصب كل ذى حرفة تعاقد مع أكثر من شخص أو جهة على القيام بأكثر من مهمة فى أكثر من مكان فى نفس المواعيد والتوقيتات، كما يُعاقب بنفس العقوبة كل من حدد أجلاً للقيام بمهمة معينة، إذا ثبت أنه كان يعلم سلفا أن الأجل الذى حدده يتجاوز إمكاناته الراهنة.