x

مي عزام الاختفاء القسري ... الرواية الرسمية مي عزام الثلاثاء 26-04-2016 23:28


لا تتعجبوا، للتاريخ ذاكرة، كما أن له سقطاته، ولكنه لا يتوقف عن التدوين، لا أحد يخدعه بمحاضر رسمية أو إعلام فاسد أو قبضة حديدية تحكم السيطرة على أعناق البشر وتعد عليهم أنفاسهم.

قد يظن البعض أنه نجا بفعلته، ولكن مهما طال الزمن وظن الناس أن الحياة ليست سوى ليل طويل... طويل، يطل الفجر من جديد ويفضح نوره من ظن أن الظلام ستر وغطى...

24 مارس الماضي احتفلت الأرجنتين بمرور 40 عاما على الانقلاب العسكري بقيادة خورخي رافائيل فيديلا الذي ظل متربعا على العرش لمدة 5 سنوات، عاشت فيها الأرجنتين كابوسا بلون الدم وهزيمة عسكرية مهينة أمام بريطانيا في حربها حول السيادة على جزر فوكلاند وارتفعت الديون الخارجية وساءت الأحوال المعيشية، سنوات الرصاص سميت بالحرب القذرة.

انقلاب فيديلا كان مدعوما من أمريكا، التي كانت تعيش في سبعينات القرن الماضي أجواء الحرب الباردة والفزع من انتشارالماركسية في أمريكا الجنوبية حيث تمتد مصالحها ونفوذ شركاتها.

أمريكا زعيمة الديموقراطية، التي كانت تتغنى بحقوق الإنسان وتنتقد ليل نهار الاتحاد السوفيتي لقمعه المعارضة وعدم احترامه لحرية الرأي والتعبير والتي صفقت طويلا لفيلم دكتور زيفاجو، كانت مستعدة للتحالف مع الشيطان في دول الجوار من أجل حماية مصالحها والقضاء على أي فرصة لوصول اليسار للحكم. دعمت بينوشيه في شيلي وفيديلا في الأرجنتين، وأغمضت عينيها عن الفظائع التي ارتكبها النظامان في حق معارضيه، كما دعمت العديد من نظم الحكم الفاسدة في دول الجوار.

أوباما في زيارته الأخيرة للأرجنتين، والتى واكبت الاحتفال بمرور 40 عاما على الانقلاب المشؤوم، اعتذر عما بدر من بلاده التي دعمت هذا النظام، كما زار حديقة الذاكرة؛ حيث يوجد نصب تذكاري لضحايا هذا النظام الدموي، الذي قدرت أعداد القتلى في عهده بنحو 30 ألف شخص كان منهم: نشطاء ومسلحون يساريون، نقابيون وطلبة وصحفيون وماركسيون ومتمردون من حزب بيرون، وكل من كان يعترض على النظام، كما تم سجن وتعذيب ما يقرب من 10 آلاف دون محاكمات، وتم انتزاع 500 طفل من حضن أمهاتهم ومنحوا بالتبني إلى مسؤولين عسكريين أو مقربين من النظام لتربيتهم، ومازالت الأمهات تبحث عن أبنائها حتى اليوم.

(ملصق لمنظمة «أمهات ميدان مايو» وعليه صور المختفين قسريا)

وعن جريمة نزع الأطفال من أمهاتهم السجينات قدم المخرج الأرجنتيني لويس بوينسو فيلم «الرواية الرسمية» La historia oficial عام 1985، والذي حصل على عدة جوائز هامة: جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي عام 1986 جائزة مهرجان كان لأفضل ممثلة (نورما ألياندرو) 1986، جائزة الجولدن جلوب لأفضل فيلم ناطق بغير الإنجليزية 1986.

يعالج الفيلم موضوع الاختفاء القسري والديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين، عبر قصة زوجين أرجنتينيين تبنيا طفلة، وتصطدم الزوجة بحقيقة أن ابنتها المتبناة مختطفة من أم معتقلة سياسيا.

تدور أحداث الفيلم في بوينوس آيرس في عام 1983، آخر سنوات مرحلة الديكتاتورية العسكرية. بطلة الفيلم أليسيا، مدرسة لمادة التاريخ في إحدى المدارس الثانوية، تعيش برفقة زوجها روبيرتو، رجل الأعمال المنتفع من علاقاته مع النظام، وابنتهما المتبناة كابي.

«لقطة من الفيلم تجمع أليسيا بكابي»

الفيلم يسير وفق فكرة تأثير الفراشة... البداية رفة بسيطة.. تتوالى بعدها التداعيات التي تؤدى لتصدع البنيان من أساسه حتى ينهار لتستيقظ أليسيا على الحقيقة المؤسفة، أن كل ما كانت تعيشه سراب وأن زوجها المحب الرحيم ليس سوى انتهازي غير شريف كما كان أبوه البسيط يصفه.

البداية مع عودة صديقتها المقربة «آنا» من المنفى القسري الذي اختارته هربا من القمع، فلقد اختطفت وعذبت من طرف الأمن السياسي، وشاهدت الكثير من المآسي أثناء اعتقالها، خصوصا اختطاف أطفال رضع من أمهاتهم المعتقلات، وتم بيعهم لعائلات غنية عسكرية أو لها صلة بالحكم بغرض التبني. تفتح هذه الحقيقة المرعبة أعين «أليسيا» لتدخل في رحلة صعبة بحثا عن أم ابنتها، حتى تصل إلى جدة الطفلة التي فقدت ابنتها ضمن الآف الشباب الذين تبخروا على أيدي الأمن السياسي، رحلة البحث تجعلها تعي أكثر حقيقة بلدها والتحولات السياسية والمجتمعية بها، وهي التي دأبت على تلقين التاريخ لتلاميذها وفق الرواية الرسمية، التي لا مكان فيها للشك أو النقد. نعيش مع أليسيا صحوة الضمير وألم المعرفة، حين تزول الغشاوة من على عينيها تكتشف حقيقة النظام الذي كانت تعيش معه في سلام والزوج الذي كانت تعيش في كنفه في بحبوحة عيش. حين تواجه روبيرتو بحقيقة ما وصلت إليه في بحثها، وتدعو جدة الطفلة لمنزلها لتراها، يثور عليها ويضربها بعنف شديد، هذا الرجل الذي يعرف أنه اختطف طفلة من حضن أمها يفقد رشده حين يقف في نفس الموقف، ويشعر بخطر انتزاع ابنته المتبناة منه وهو الذي تعلق بها ويحبها كثيرا.

«مظاهرات الأمهات يطالبن بعودة أبنائهن المختفين»

الفيلم ينتهي بخروج «أليسيا» من منزل الزوجية إلى الأبد.

وهو ينتقد جريمة الصمت التي مارستها البورجوازية المنتفعة في إطار النظام الديكتاتوري العسكري، ولقد علق المخرج عن فيلمه قائلا: «المختفون يشكلون الجرح الظاهر لمرض عضال ومعقد يهمنا جميعا، أغلبنا، نحن الأرجنتينيون، كنا نظن أنفسنا خارج دائرة الضحايا والجلادين، والآن نعلم بأننا كنا الإثنين معا»... الصمت على الشر أحيانا يكون جريمة لا تقل عن الشر نفسه.

ولكل ظالم نهاية، حوكم خورخي فيديلا مع ثمانية عسكريين آخرين من أركان حكمه محاكمات عادلة، وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة عام 1985 لاتهامه بارتكاب أعمال تعذيب وقتل وجرائم أخرى، وحُكم على خمسة من قيادات الجيش بالسجن 25 عامًا بتهمة التورط في قضايا تعذيب واحتجاز غير قانوني وانتهاكات لحقوق الإنسان، ومات فيديلا في محبسه عام 2013 وكأنه لم يكن.

ومازالت قضايا المختطفين جرحًا ينزف في قلب الأرجنتين.. رغمًا عن الروايات الرسمية.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية