يمر اليوم (السبت) 400 عاما على رحيل ويليام شكسبير أعظم كتاب الإنجليزية كما يصنف. وعبقرية شكسبير لاتتمثل فقط في الحبكة الدرامية وبراعة الحوار في مسرحياته التي بلغت 38 مسرحية، لكنها تتجلى في المخزون الفكرى والفلسفي الذي تحمله الكلمات، كان الدكتور زكى نجيب يتأمل عباراته وكأنه يتعامل مع نص فلسفى يبحث عن جوهر الحقيقة ،وكان يعتبر شكسبيرحكيما ينطق صدقا.
في كتاب «شكسبير معاصرنا» للناقد البولندي يان كوت يقدم الكاتب أعمال شكسبير بوصفها إبداعاً فكرياً إلى جانب الشق الفني، فشكسبيرالذى عاش في القرن السادس والسابع عشر وقدم أعماله لجمهور ذلك الزمن، مازال قادرا على الحديث إلينا وعنا.
كل المشكلات التي ينقلها إلى خشبة المسرح وكل الأسئلة التي يطرحها، تتوجه إلى الإنسان في كل زمان ومكان، فهو يتحدث عن جذور الصراع الإنسانى وليس ظواهره، وحين يتحدث في مسرحياته عن السلطة والصراع حولها مثلما حدث في مسرحيات مثل: هاملت والملك لير، ماكبث، يوليوس قيصر، وغيرها،
يلاحظ يان كوت ان كل واحدة من هذه المآسي التاريخية الكبرى التي كتبها شكسبير تبدأ بصراع على العرش أومحاولة لتوطيده، وكل واحدة منها تنتهي بموت الملك وتتويج ملك جديد. الحاكم يتسلم السلطةولقد قام بسلسلة طويلة من الجرائم: فهو قد أبعد الذين أعانوه في الفوز بالتاج، يقتل أولاً أعداءه ثم حلفاءه السابقين، ويعدم كل من يمكن أن يكون خليفة له أو مطالباً بالعرش. لكنه، دائماً، لا يستطيع التخلص منهم جميعاً، يبقى دائما واحد، ابن أو حفيد أو أخ لأحد القتلى، يعود ليدافع عن القانون المغتصب فيلتف حوله السادة الذين رفضهم الملك، لأنه يجسد الأمل في نظام جديد يحقق العدالة. غير أن كل خطوة نحو السلطة تختلط بالقتل، والعنف والخيانة. وهكذا، عندما يجد المنقذ الجديد نفسه قريباً من العرش، يقدم هو الآخر على سلسلة من الجرائم لاتقل وحشية وبغضا عن الحاكم السابق، وعندما يعتلى كرسى العرش يصبح مكروهاً كسلفه... وهكذا يبدأ بقتل أعدائه، ثم حلفائه السابقين. فيظهر مطالب جديد بالعرش، يتحرك باسم العدالة المغتصبة، وتدور العجلة دورة كاملة، ويبدأ فصل جديد، وتبدأ مأساة تاريخية جديدة...لتبقى دوائر السلطة مختلطة بدوائر الشر.
يرى شكسبير كما يحلل يان كوت، أنه ليس هناك ملوك أخيار وملوك أشرار، إنما هناك ملوك على درجات مختلفة من التشبث بالسلطة. لكن النتيجة الدائمة والمؤكدة هي إراقة الدماء.
الطريق إلى السلطة يختلط دائما بأحط النوازع الإنسانية كما صورها شكسبير، من جشع وحسد ورغبة في التملك والسيطرة التي يمكن أن تجعل الأبن ينقلب على ابيه كماهو الحال في الملك لير. ولقد يبدأ الأمر بطموح مشروع يغزو قلب بطل نبيل شجاع، لكن هذا الطموح يتحول لحسد ورغبة في امتلاك ماليس له، كما حدث لماكبث البطل النبيل الشجاع المقدر من الملك وأعوانه وتابعيه.
«ماكبث» من أكثر المسرحيات التي يتجسد فيها الشر الكامن في أعماق النفس الإنسانية، وهى من أقصر مسرحيات شكسبير وأكثرها تكثيفا وعمقا، وأقربها إلى قلبي، مسرحية مليئة بالشر والكراهية والانتقام والحسد والدونية النفسية، مشحونة بالخوف والاحساس بالذنب وتأنيب الضميروالصدق الصادم.وهى تعد من أكثر المسرحيات حداثة ومعاصرة، فهى الأكثر ارتباطاً بصراع الإنسان مع الخير والشر بداخله وتأرجحه بينهما، ورغم أنها تبدأ بنبؤة الساحرات الثلاث كماهو الحال في الأساطير الاغريقية، إلا أن الإرادة الإنسانية هي التي تحرك الأمور، الشر فيها مسؤولية بشرية وليس قدرا لارد له.
كتب حسين أحمد أمين في مقدمة ترجمته لمسرحية ماكبث: «من الصعب، المقارنة بين شخصيتي هاملت وماكبث، ولكن يمكن، باختصار، القول إنه بينما تدور الصراعات بين الأهواء والنوازع في «هاملت» داخل روح الأمير الدنماركي الشاب، مما يخلق لديه ذلك التوتر والتردد اللذين صارا علامة أساسية من علامات الخلق البشري المعبر عنه في الفن، فإن ما يحرك ماكبث ليس تردده أو أية صراعات داخلية. ما يحركه هو نزعة الشر التي إذ تدفع الإنسان إلى القتل وإلى التعطش إلى الدم، تقتله في الوقت نفسه. لأن ما نشاهده أمامنا على المسرح في «ماكبث»، إنما هو سقوط ماكبث نحو الجريمة وفي الجريمة.
المسرحية تدور حول القائدين العسكريين ماكبث وبانكو، وهما عائدان من المعركة منتصرين إلى وطنهما في اسكتلندا، حيث يلتقيان في طريقهما بالساحرات الثلاث، اللواتي يتنبأن لهما بالمجد والسلطة وتقول النبوءة كما نعرف ان ماكبث سيعتلي عرش اسكتلندا، وأن ورثة بانكو هم الذين سيتولون هذا العرش من بعده.
دنكان الملك الحالى، رجل طيب القلب سليم النية ،يحتفى بمحبة بأنتصار ماكبث وشجاعته ،ويقربه منه ويجزل له العطاء ويزوره في قلعته ليظهر له امتنانه لما قدمه في الحرب وهزيمته لعدوه ملك النرويج، ويعلن في هذا الاحتفال عن تنصيب ابنه مالكوم وليا للعهد، مما يقضى على أمل ماكبث الذي يندفع بتحريض من زوجته، وبعد تردد طويل إلى قتل الملك ويتبع الجريمة الأولى سلسلة من الجرائم، لكن هذه المرة ليست بدافع الطموح والرغبة في السلطة ولكن بدافع الخوف ووطأة الإحساس العميق بالذنب، فهو يدرك جرمه ولكنه ينزلق إلى الجحيم حتى يصبح الموت بمثابة الخلاص.
يعيش ماكبث جحيمه الخاص ويعبر عن صراعه الداخلي بهذه الكلمات: «إحساسى بالذنب يجعلنى أفضل أن أفقد الاحساس بنفسى»
«يخيل إلى أنى سمعت صوتا يصيح: لن تعرف النوم بعد اليوم! النوم البرىء الذي يرتق ما تفتقه الهموم، ذلك الموت اليومى الذي يختم حياة كل نهار، فيغسل عنا الكلالة ويضمد جراح الأذهان، ويمدنا بالقوة على العيش»
«ماهذا الذي اصابنى حتى بات كل صوت يخيفنى ؟»
وقبل مقتله على يد «مكدف» يقول لنفسه: لقد عشت بمافيه الكفاية حتى جفت واصفرت أوراق عمرى واوشكت على السقوط، فأن ما ينبغى أن يصاحب شيخوخة المرء من الشرف والمحبة والطاعة وزمرة الاصدفاء، فلا أمل لى فيها، وما البديل لها عندى غير اللعنات المكتومة، وتكريم اللسان الزائف، وكلمات لاتخرج من القلب، ويكاد القلب لولا خوفه أن ينكرها.
ماكبث هو صورة الإنسان النبيل الموهوب والقائد الشجاع الذي تؤدى به طموحاته إلى الخيانة والجريمة، وهو يدرك بشاعة ما فعل، ولايشك لحظة في وجود فارق بين الشر والخير، لكنه لايستطيع التوقف، إذا كان الطموح هو الباعث على ارتكاب مكبث لجريمته الأولى وهى قتل الملك دنكان، فإن سائر جرائمه اعتبارا من قتل حارسى الملك إلى قتل صديقه بانكو إلى قتل عائلة مكدف كان الباعث عليها الخوف الناجم من الذنب.
حينما كان ماكبث جندى في المعركة كان يشعر بالأمان وحين أصبح ملكا أقتسم الخوف معه فراشه وجفاه النوم.. «لاقيمة للملك إن لم أكن آمنا في ملكى»...صدق شكسبير...
تحية تقدير للكاتب الذي مازال يعيش بيننا بعد أربعة قرون من الرحيل.