يشهد العالم العربى تحولات هيكلية لم يعرف لها مثيل خلال سنوات طويلة. جاء الربيع العربى ولكن سرعان ما تحول إلى خريف أو شتاء، فانتشرت الحروب الأهلية، وتنامى الإرهاب، وانهارت دول وفشلت أخرى. العالم العربى يشهد اليوم تحولا تاريخيا آخر هو «نهاية حقبة البترول». مرحلة البترول التى امتدت لعدة عقود ارتبطت بزيادة الأهمية الاستراتيجية للمنطقة وخاصة دول الخليج، وتبلور بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية علاقة تحالف قامت على معادلة «البترول مقابل الأمن» أى تقوم دول الخليج بضمان تدفق البترول للولايات المتحدة/ الغرب وبأسعار معتدلة، فى مقابل ضمانه أمريكية بتوفير الأمن لدول الخليج ضد أعداء الداخل والخارج (خاصة العراق وإيران).
ساهمت عائدات البترول أيضا فى تمويل حركة النمو الضخمة التى شهدها الخليج، واستفادت أيضا بعض الدول العربية غير النفطية، ومنها مصر، من خلال المساعدات والاستثمارات من دول الخليج، والتحويلات النقدية من العمالة المهاجرة. كذلك ساهمت الحقبة البترولية فى انتشار منظومة معينة من الأفكار والقيم ساعدت دول الخليج فى نشرها وعادت بها العمالة المهاجرة لبلادها.
معطيات حقبة البترول تقترب الآن من نهايتها. فالولايات المتحدة لم تعد بحاجة للبترول العربى بسبب الاكتشافات الضخمة بأراضيها واقترابها من الاكتفاء الذاتى خلال السنوات القليلة القادمة، هذا الأمر دفع الولايات المتحدة لتفكيك معادلة «البترول مقابل الأمن»، أى انتهت الحاجة الأمريكية لبترول الخليج وبالتالى ستنتهى بالتبعية مظلة الحماية. الأكثر من ذلك أن الولايات المتحدة أخرجت المارد الإيرانى من القمقم الذى وضعته فيه من قبل، وهى تعلم أن ذلك سيؤدى لزيادة المخاوف الخليجية ولجوئها للولايات المتحدة لشراء المزيد من السلاح لمواجهة التهديدات الإيرانية، وكله فى مصلحة الاقتصاد الأمريكى واستنزاف أكبر لموارد الخليج.
انخفاض أسعار البترول فى الأسواق العالمية هو أحد مؤشرات نهاية حقبة البترول، وتشير الدراسات الاقتصادية لاستمرار السعر المنخفض فى المستقبل بسبب الفائض الكبير منه فى الأسواق، وانخفاض معدلات النمو فى الاقتصاد العالمى، والاتجاه للاستثمار فى بدائل البترول. الاقتصاديات الخليجية تأثرت بشدة من انخفاض أسعار البترول. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولى إلى أن الدول الخليجية فقدت ما يقرب من ٣٤٠ مليار دولار من عائداتها البترولية خلال عام ٢٠١٥، ويتوقع زيادة هذا الرقم خلال العام الحالى. معظم دول الخليج أعلنت موازنات بها عجز مالى كبير، وبعضها لجأ للاقتراض الخارجى، أو استهلاك جانب كبير من الاحتياطى النقدى الذى يملكه.
بعض الدول العربية ومنها السعودية تدرك جيدا نتائج نهاية حقبة البترول، ومن المفترض أن يعلن الأمير محمد بن سلمان ولى ولى العهد (اليوم ٢٥ إبريل) عن رؤية للتعامل مع المرحلة الجديدة تقوم على الاستثمار فى مجالات غير بترولية، وتنويع مصادر الدخل والتوسع فى قطاع التصنيع والخدمات، وتقليل الدور الاقتصادى للدولة وبيع جانب من أسهمها فى شركة أرامكو البترولية. فكرة إنشاء جسر الملك سلمان للربط بين مصر والسعودية هو جزء من رؤية مرحلة ما بعد البترول ويستهدف تحويل السعودية إلى مركز عالمى للتجارة والوصول لأسواق جديدة. بالإضافة لأهميته الاستراتيجية فى أى خطط للتعامل مع المخاطر التى تواجه دول الخليج بعد انتهاء الضمانات الأمريكية.
ما علاقة مصر بمرحلة ما بعد البترول؟ علاقة مباشرة، وإحدى نتائجها ستكون انخفاض المساعدات والاستثمارات من دول الخليج، وانخفاض تحويلات العمالة المصرية وفرص العمل المتاحة بالخليج. كما أن استمرار انخفاض أسعار البترول فى المستقبل يجب أن يدفعنا أيضا إلى إعادة تقدير توقعاتنا من عائدات اكتشافات الغاز الطبيعى الأخيرة فى البحر المتوسط. الخلاصة: لن نسلم من تأثيرات نهاية الحقبة البترولية، ونحتاج تفكيرا علميا وجادا بشأن اقتصاد مصر ودورها فى مرحلة ما بعد البترول.